هاتان الفكرتان كانتا منتعشتين وبارزتين، حتى منتصف الخمسينيات، إذ بدأتا بالأفول والاضمحلال، والموت الظاهر، لتفاجأ المجتمعات العربية بعودتهما عبر «صحوة» ناشئة في مطلع السبعينيات، ونظرًا لغباء دهاقنة «الدين المنظم»، أعادوا السيناريوهات السابقة نفسها، بلا أي تطوير أو تعديل، ولتطور العصر وتبدل الوسائل والأدوات، طال أمد سقوط نظرية «الدين المنظم» المتوقع هذه المرة، على الرغم من تكرار الأحداث والجرائم، التي اقترفتها أيدي أولئك المتطرفين بشكل مضخم عن حقب الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، هذه الصحوة الجديدة وقتها، أعادت حسن البنا وسيد قطب، والفضيل الورتلاني وعبد الحكيم عابدين، وعبد الرحمن السندي وعبد القادر عودة، في ثياب مصطفى مشهور ومحمد بديع وإبراهيم منير، وخيرت الشاطر وطارق السويدان وسلمان العودة، وسفر الحوالي وجاسم سلطان، وقبلهم وبعدهم الكثير.
ثم إن الثورة الإيرانية في نهاية عقد السبعينيات، أمدت «الدين المنظم» بأمل عظيم في إمكانية الوصول إلى الغاية المنشودة، وبالفعل وصل ترابي السودان في 1989، وبعده بسنوات تسلم حزب الرفاه في تركيا السلطة بمساندة حزب تانسو تشيلر في 1996، الأمر الذي أحدث نشوة عارمة في عقول الوعاظ السياسيين، بعد أن شعروا أن الوصول «بالدين المنظم» وحده لا يكفي ما لم يكن ثمة تخادم مع فرقاء آخرين، ولو كانوا مناقضين للطريق والطريقة، وهو الأمر الذي أدركه ساسة «الدين المنظم» جيدًا بعد أحداث 9/11، حيث كانت المسألة قبل ذلك رهن الأخذ والرد، وبدأت الإستراتيجيات بالتغير، وطفق القوم يوارون شعاراتهم وغاياتهم الكبرى، وأصبحت ظاهرة تماهي «الدين المنظم» وذوبانه في المفاهيم التي تسوق للغرب، سمه بارزة، لتضع هؤلاء الوعاظ في مقدمة الخيارات لتولي السلطة، وكأن البلدان العربية جمهوريات ورق، تطير في مهب الريح، والملاحظ أنه قبيل ثورات ما يسمى بالربيع العربي، تبدلت خطابات «الدين المنظم» بشكل عكسي ومناقض، إلى درجة التصريح بعدم إمكانية الجمع بين الدين والسياسة، مع أنهم يروجون أن المتدين أو الشيخ الواعظ التقي الورع، هو بالأخير مواطن له حق ديمقراطي مكفول بالترشيح والترشح، وهذه مخاتلة وخداع يتكرران من القوم كثيرًا.
على كلٍ، الصحوة في السعودية لم تعد متمثلة بهيئة اللباس المعهودة، ولا بالتزمت والتشدد السابق، صحويو «ما بعد الصحوة» اليوم هم في طليعة من يرتاد «الهبات» الجديدة في المجتمع، وهم الأبرز والأكثر سيطرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الإعلام الجديد، وما زالوا يجذبون الجمهور بسبب الدعم الخفي والتخادم الكبير بين فئاتهم، ومستوياتهم، ومن هنا يجب أن يكون معيار الفحص هو الفكر لا الشكل، والخطاب لا المظهر، مع التركيز على المسكوت عنه، «فالسكوت فعل» كما ينظِّر «ميشيل فوكو».
ومن أجل هذا الأمر الذي أحدث التباسًا كبيرًا بين الناس؛ لأنهم ببساطة يتعاملون مع صحوي لاصحوي، فإنه يجب الانتباه إلى أنه، حينما نعمل على إزاحة فكر فاسد من أسس الجذر المعرفي والسلوكي للمجتمع، يلزمنا مزاوجة عمليتي الهدم والبناء الفكريتين في الوقت ذاته، لسبب بسيط وهو أن البناء الحضاري من عادته التسارع عند زمان معين، بسبب تراكم المنجزات التي يأتي ما بعدها ليضاعفها ويضخمها، وبسبب هذه المراكمة الضخمة، يضعنا عامل الزمن في زاوية ضيقة، بشأن ملاحقة الفرص، وعدم تفويت انفتاح الأفراد، وانخذال المتطرفين المتزمتين، خصوصًا في ظل ظروف إقليمية ملتهبة تتقلب سريعًا وكثيرًا.
وعملية الهدم للفكر والسلوك الضالين في السعودية، قائمة على قدم وساق وبشكل يحصد الإعجاب، غير أن المهمة الأصعب هي عملية بناء فكر إيجابي صالح يقوم بعدة عمليات في وقت واحد، من أهمها معالجة الورطات المعرفية والإنسانية، التي أوقعنا فيها الفكر الصحوي، وكذلك التهيئة المعرفية والفكرية لأعمال المعالجة الوجدانية والمشاعرية، التي تقوم بها المنجزات الحضارية المتقدمة التي دبت في مفاصل الوطن وتفاصيله، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين -أيدهما الله- حيث يتم في هذا العهد الزاهر النظر إلى حق الفرد من زاوية جديدة غير مسبوقة، لإعطاء الإنسان السعودي قيمة عليا، بعد أن ساهم الفكر الصحوي لعقود في حبسه، إما في سجن العادات التي ألبست ثوب القداسة، أو حبسه في خانة الذنب والتقصير بسبب البعد عن الدين، الذي صورته الصحوة وفقًا لرأي أحادي لا يقبل نقاشًا أو خروجًا عليه.
إن إعادة بناء الفكر الحضاري وتحديثه، ونزعه من براثن التزمت في بلد استثنائي، في قيمته الروحية والاقتصادية والسياسية كالمملكة العربية السعودية، يعتبر أهم وأعقد قضية تواجه السعوديين اليوم، ولا يمكن البدء بإعادة هذا البناء الفكري، دون العمل على هدم التفسير الثوري والسياسي للإسلام، وبناء الفكر الحضاري المتسامح محله، فالإسلام حركة سلام وتسامح وتعايش، وليس دين سلطة وقهر واستعلاء، فطريق الله لا يُعبر بالاغتيالات والتفجيرات، والسعي إلى السلطة بعمل سري، وتحالفات شيطانية، بغرض تأسيس حكم إلهي في حكومة يقودها «الدين المنظم»، ومكمن الخطورة في هذه الهوية القتالية القائمة على الصراع، كونها تلزم تابعها ومتمثلها بمحاربة العالم، على خلفية أن يصبح الإسلام منتصرًا وظاهرًا على الأمم، تحت عنوان عريض هو: استعادة الخلافة.
وأشير إلى نقطة مهمة، وهي أني لست ضد اتحاد المسلمين وتوحدهم، بل إني معه وأؤيده بكل قوة، ولكن اتحاد المسلمين روحيًا أكثر من كافٍ، ولا يلزمنا نهائيًا الاتكاء على فكرة الخلافة للاتحاد.
أخيرًا، حديث أمير الحلم السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان -أيده الله- للتلفزيون السعودي في أبريل الماضي، يعتبر خارطة طريق للتغيير الثقافي والفكري، المطلوب لهذه المرحلة وما بعدها، وهذا هو حديثنا، وشجون حديثنا في المقال القادم -بإذن الله تعالى-.