الفن قطعًا ليس للفن، كما أنه ليس للتحليل النفسي، وليس للدعوة الاجتماعية، وإنما هو كل ذلك وشيء آخر فوق كل ذلك وغير كل ذلك، أي أن العمل الفني عملية معقدة متعددة الأبعاد متعددة الجوانب متعددة الأعماق.

والناقد الفني إذ يأخذ في اعتباره كل تلك الجوانب إنما ينتهي -أو ينبغي أن ينتهي إذا أراد أن يسلم له منطقه- إلى القيم الجمالية، وهي القيم التي تتعلق على سبيل المثال باتجاه الحركة الدرامية في داخل العمل الفني، في داخل القصيدة أو الرواية مثلاً، وبالسلامة الصياغية فيها، وبالعلاقات بين أجزائها، وحدود بنائها، ومطابقة أسلوبها وموضوعاتها، وقواعد التعبير فيها، وإيقاعات سرعة تطورها، والصلات بين كل تلك العناصر كلها وغيرها بعضها بعضًا.

وعندئذ قد يقوم السؤال: ألا يعني ذلك كله إيغالاً في حرفية العمل الفني، وعكوفا فنيًا على عنصر الصنعة والاختصاص فيه، وإغلاقًا للعمل الفني على نفسه في حدود قاطعة ضيّقة بل خانقة لا يدركها بل لا يهتم بها إلا النقاد والمدرّسون والأكاديميون من أهل الاختصاص؟

ولكن المدهش أن الاستقراء الصابر الموصول ممتد النطاق للأعمال الفنية ينتهي إلى نتيجة تُخالِف هذا الاعتراض كل الخلاف.

نعم من المدهش حقًا -أو لعله ليس من المدهش إطلاقًا، في نهاية الأمر- أن كل عمل فني توافرت فيه قيم جمالية عالية، توافرت له أيضًا بالضرورة في كل حالة، قيم أخرى قد نسميها قيمًا نفعية في سياق النظر إلى جدواها، ولكني لا أجد وصفًا لها خيرًا من أنها قيم أخلاقية - لا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل بالمعنى الأوسع والأكبر. والقيم الأخلاقية في نهاية الأمر إنما هي قيم اجتماعية - ليس بالمعنى الدعائي ولكن على نمط يتصل بالتكامل والتواصل.

والقيم الاجتماعية بعد ذلك، أي قيم الجدوى، من أكبر همومنا، باعتبارنا (حيوانات اجتماعية)، وباعتبارنا ننتمي إلى العالم الثالث.

التعبير الفني يفي بتلك النزوعات العميقة في الإنسان (نحو الإنسان)، وأنا إذ أتلقى العمل الفني أشارك في تجربة الفنان التي يصوغها في عمله، أو أخلقها من جديد على الأصح، لست أشارك فقط في تجربة فردية، أو أخلقها من جديد، بل أمارس تجربة إنسانية أشمل وأعرض، فترضى من ذلك عندي صبوات داخلية للتلاقي مع الناس، مع معاصريّ ومع من سبقوني ومع من يأتي بعدي على الأرض من نوعي: النوع الإنساني. هنا تداعمٌ يشبع فيّ شوقا أصيلاً أوليًا من أشواق كياني، ويهدّ الحيطان التي تحيط بفرديتي، ويفتح لي باحة التواصل والتلاقي، تلك هي فيما أتصور جدوى الفن والأدب. وتلك هي مهمة الفن والأدب الاجتماعية بمعناها الدقيق العميق. المهمة التي يُخفِق فيها لو أنه قام فقط يدعو إلى طرازٍ من طرازات السلوك أو التشكيل الاجتماعي المحدّد والمحدود، لو أنه قام فقط بالدعوة.

ذلك كله لا ينفي عن الأدب أبعاده الطبقيّة، ولا أيديولوجيته المضمَرة، لكنه يتضمنها ويتجاوزها.

فلنقل إذن إن هيمنة الصورة - من داخل هيمنة الأجهزة التقنية والمؤسسات الإعلامية والسلطوية - مازالت موضع سؤال. وأظن أنها ستظل دائمًا موضع سؤال. ولنقل إن الأدب المكتوب مهما بدا مظهره عتيقا عفى عليه الزمن، سيظل فعالاً، ومثيرًا للخيال، وحافزًا للمشاركة الإيجابية وللجهد الخلاّق من جانب القارئ، دعك -طبعا- من الإشارة المفصحة التي تقول إن عدد كتب الأدب والشعر المطبوعة يزداد يومًا بعد يوم في عصر السينما والتلفزيون والفيديو، في البلاد الصناعية المتقدمة، وحتى في بلادنا، وأن عدد قرّاء الرواية بحكم آليات اجتماعية واضحة يزداد، بل إن الروايات ودواوين الشعر (بغض النظر الآن عن مستواها الفني) يزداد عدد صفحاتها ويكبر حجمها، ودعك من أن التلفزيون أحيانا، وعلى الأخص في المجتمعات المتحضّرة، يسهم في اجتذاب القرّاء إلى عدد أكبر من هذه الكتب، سواء بأن يقدمها مصوّرة أو بأن يخدمها بالندوة والتقديم والتعليق.. إلخ، هذه الظواهر كلها جديرة بأن تجعل هذه المشكلة موضع سؤال دائم.

أظن أن أجهزة الإعلام الجماهيرية بذاتها، وأجهزة إنتاج وتوظيف الصورة بشكل أخص بذاتها، ووحدها، محايدة، كيف تُوجّه؟ ماذا تقول؟ ماذا تفعل؟ هذا هو السؤال. من الممكن أن نتصوّر أن (الجهاز) وحده، له سيطرته، كما لو كان له حياة أخرى مستقلة، لكننا لم نصل بعد، وأرجو ألا نصل أبدًا، إلى عالم (الرواية العلمية) الذي تسيطر فيه الأجهزة، ويسود الروبوت والكمبيوتر دون منازع. قد يحدث هذا في مستقبل قريب أو بعيد، لا أدري، ولكن أميل إلى أن أنفيه.

هناك وراء الجهاز دائمًا عامل إنساني! وهناك أيضًا المؤسسة ذات السلطة، والمصلحة الاجتماعية، هناك التوجيه السياسي، هذا صحيح! ولكننا لا يمكن أن ننفي تمامًا أن هناك، وراء الجهاز، هذا الوجد والصبابة والنزوع نحو التواصل الإنساني.

1987*

* كاتب وأديب مصري " 1926 - 2015"