عاش سقراط (على افتراض أنه شخصية حقيقية) وتلاميذه الأوفياء، في حقبة زمنية ضاربة في التاريخ، يفصلنا عنهم عشرات القرون الطويلة، ومع ذلك ما زال تأثير السلفية السقراطية يهيمن على كثير من الأفكار الغربية اليوم. وأفلاطون التلميذ السقراطي النجيب الذي يعتبر أبًا ورائدًا للأفكار الغربية، أكثر تلاميذ سقراط وفاءً وحرصا على نقل رسالة أستاذه وفلسفته العظيمة. فما زالت أفكار السلف السقراطي، وعلى رأسهم التلميذ النجيب أفلاطون، تعيش بيننا وتأثر فينا رغم الثلاثة وعشرين قرنا التي تفصلنا عن الأسلاف السقراطيين. يقول مايكل هارت صاحب كتاب المئة الأوائل متحدثًا عن أفلاطون أهم شخصية من شخصيات السلف السقراطي: «لقد كان لأفلاطون تأثير على الولايات المتحدة الأمريكية فهنالك بعض مواد في ميثاق الدستور الأمريكي تنص على أن الدولة يجب أن تقدم الوسائل لاكتشاف واحترام الرغبات الشعبية وانتخاب أعقل وأفضل الأشخاص لخدمة الدولة».

ما زالت المدرسة السلفية السقراطية تمارس تأثيرها ونفوذها عبر العصور المديدة، ولم يستطع حتى الفلاسفة المتأخرين رافعو شعارات التنوير والحداثة أن يمارسوا ضد هذه المدرسة أي قطيعة معرفية. فالإنسان دائمًا ما يبرهن بأن هناك خيوطًا متينة تربطه بأسلافه وماضيهم التليد. وبشكل لا واعي فإن الإنسان مهما بلغ من المعاصرة وصعد درجات الحداثة فإنه سيظل منتظمًا في تراث أسلافه ومرتبطا بهم بصورة غير ناقدة، فكل المذاهب والأديان والفلسفات العقلية وغير العقلية تشدها نحو ماضي الأسلاف حبال غير مرئية. ومهما حاولنا أن نتحرر من قيودها فإنها تمارس تجاهنا المزيد من السلطة وتكبلنا بالمزيد من الأغلال. فالماضي وتراث الأسلاف يشكلان ثقافتنا وهوياتنا المتنوعة ونرث منهم سرًا من أسرار الوجود وهو سر اللغة التي تمثل الوعاء لتبادل ونقل أفكارنا، إن اللغة هي أحد الأشياء التي منحت مسبقا للإنسان بفضل أسلافه. فنحن ومهما بلغنا من الحداثة والمعاصرة نجد أنفسنا بفضل اللغة ماضويين بشكل أو بآخر، ولا تكتمل إنسانيتنا حتى نعيش ماضينا بقدر ما نعيش حاضرنا وبقدر ما نتطلع فيه نحو المستقبل المشرق.

في عصر الأسلاف نبحث عن اللغة في عصر كمالها ونقائها حيث لا يمكن اجتنابها أو الاستغناء عنها لفهم أي نص مقدس، فاللغة منحت النصوص المقدسة الديمومة والاستمرارية لتظل راسخة في ذاكرة الإنسان أبد الدهر، لغة الإنسان العادي أو لغة الظاهر التي منحت السلف والتراث الأهمية لارتباط لغة الأسلاف بالوحي الإلهي، اللغة التي يتحد فيها الكلام الإلهي باللغة البشرية، يقول ماكس بيكارد: «إن اللغة ليست من ابتكار الإنسان، فهي تحتوي على أكثر مما يعرفه, وأكثر مما يقدر على استخدامه. إن اللغة ترفع الإنسان أبعد من مستواه الإنساني ذاته».

اللغة الإنسانية كما يتحدث بها الأسلاف في عصر نزول الوحي، لغة متاحة للجميع ولكل من يحسن الحديث والتعبير بلسان أسلافه الطيبين، لغة إنسانية لا تحوي أي أسرار خارجة عن قدرة الإنسان العادي وليست حكرًا على أفراد لهم مكانتهم الخاصة بما يملكونه من أسرار اللغة. وعند فقه الأسلاف فإن تفسير النصوص المقدسة ليس فيه من الأسرار الخارجة عن قدرة الناس العاديين لفهمه واستيعابه. إن ملكة اللغة تربطنا روحيا وفكريا بالأسلاف، لذلك يظهر التاريخ الإنساني وكأنه سلسلة متصلة من الأحداث والنزاعات بين قوميات تتحدد هوياتهم بواسطة اللغة.

في رواية «دكتور جيفاكو» للشاعر والروائي الروسي بوريس باسترناك، يقول الكاتب على لسان شخصية الرواية الرئيسية الطبيب جيفاكو: «إن التقدم في العلوم رهن بقوانين الدفع، ذلك أن كل خطوة إلى الأمام إنما تتم برفض الأخطاء السائدة والنظريات المخطئة. لقد كان فاوست فنانا بفضل قدوة معلميه. فالخطوات التقدمية في الفن رهن بقانون الجذب، وهذا نتيجة تقليد الأسلاف الأحباء والإعجاب بهم».

الماضي ليس عالما منفصلا عن ذواتنا، عالمًا يحوي أشياء يمكن حصرها ونقدها بشكل شامل وبالتالي نستطيع محاكمته ومقاضاة شخصياته المؤثرة، أو نختار منه ما يعجبنا ونرفض ما لا يصلح لنا وكأننا ننتقي حبات البندورة الصالحة في سوق الخضار. إن الماضي حاضر فينا كجزء خفي غير مرئي لا يمكن تمييزه وحصره وبالتالي قبوله أو رفضه. الماضي يسكننا ليس فقط بعاداته وتقاليده ورقصاته الفلكلورية بل إنه يسكننا بموضوعاته وأفكاره وأجوائه الساحرة وشخصياته المؤثرة. الماضي يعيش مع البشر لأنهم بشر ناطقون باللغة، ويعيش معهم في الحياة بشمول لا يمكن تجزئته أو رصده، فالماضي ببساطة هو جوهر الحاضر وقلبه وروحه.