تجري من حولنا الأيام مكونة الشهور والسنين فتتشكل رؤى وتصورات الذوات الإنسانية بطرق شتى متفاوتة ومتناقضة بالقدر الذي تحمله كل ذاتٍ إنسانية من صفات متباينة فيما بينها قوةً وضعفًا وإرادة وعزيمة، فقد ترى تلك الذات الإنسانية أشكال التصرفات والأحداث والوقائع التي تروق لها فتطرب لها وتمسي لياليها مليئة بالسعادة والرؤية المتزنة فيما يظهر، وكذلك قد ترى تلك التصرفات والأحداث والوقائع التي تؤلمها وتُكدر صفو حياتها وتجعلها تبحث عن مخارج لها علها تنجو من غلواء تلك الأحزان والآلام والنتوءات التي حُفرت في روحها أو حتى تُخفف عنها شيئًا من عدم السكينة التي طرأت على حياتها فجعلتها تضطرب ولا تكاد تجد لها مكانًا آمنًا تلتقط أنفاسها فيه.

وهناك الذات الإنسانية التي قد تجمع في رؤيتها بين البينين، فهي تارةً ترى ما تطرب لما يجري من أحداث وتصرفات ووقائع، وتارةً ترى ما يؤلمها ويُحزنها فهي مستديمة التحول والتغير بين ذينك الحالين وتحاول أن تمارس فكرة الموازنة بين الأمرين حتى لا يحدث لمسيرتها أي شططٍ يجعلها تفقد الاتزان في معالجة رؤيتها لأحداث ووقائع الزمان، وإن مصطلح وفكرة «بين البينين» يُستعمل بكثرة في كثير من المجالات سواء الشرعية والعقدية أو الفلسفية الكلامية، وقد نُسب للرواقيين التمييز بين قيمة الخير وقيمة الشر، ويقولون هناك أشياء خيرة وأشياء شريرة وأشياء بين البينين، فإذا ما أرادت الذات الإنسانية أن تُناجي تصرفاتها وتغوص في عمقها فإنها ستلجأ إلى أن تطرح أسئلة كثيرةً على تلك الذوات الحائرة التي وقعت في إشكاليات دوامة عدم الاستقرار، ومن تلك الأسئلة التي دومًا ما تستحضرها في مناجاتها لها هو أنه ما الذي يجعل نفسًا وذاتًا تملك مالًا وسلطة ونفوذًا تقتحم تصرفات لا أخلاقية وتظلم وتبطش وتنكر على كل من يتعامل معها كل خير ولا تعترف له بأي قدر أو احترام، ولأضرب مثلًا لهذه الأسئلة التي طرحتها تلك الذات الإنسانية في مناجاتها، من خلال أحداث حقيقية حتى لا نتحدث في فضاء خيالي، وتلك الواقعة قد حدثت أمام الذات الإنسانية التي تُناجي التصرفات الإنسانية فصُعقت بسماع أن عاملًا قد عمل لدى رب عمل رسمي (أي في إحدى الجهات الحكومية) لمدة ست سنوات أو أكثر فأنكر رب العمل أمام الجهات القضائية في محاضرها الرسمية أن ذلك العامل عمل لديه وأنه لا علاقة بينهما، وفي هذه الواقعة لا تكمن الإشكالية في مناجاة تلك الذات المنكرة لتلك العلاقة من حيث التقاضي بل إن تلك المناجاة تبحث عن ماهية الأسس والأسباب التي جعلت ذاتًا طبيعيةً، وهي (تُمثل جهات رسمية)، ترتكب تلك الأفعال غير الأخلاقية وهي تعلم علم اليقين أنها تمارس كذبًا وزورًا وبهتانًا وغشًا وتدليسًا، والأغرب أن من كان يعمل مع ذلك العامل لزموا الصمت وهم يعلمون علم اليقين أنه كان أخًا وزميلًا، فأخذت تلك الروح المناجية تغوص في البحث عن أسباب تلك الممارسات ولمَا وصل حال ذواتنا الإنسانية إلى هذه الدرجة من الانحطاط الأخلاقي والزهو بالنفس وإساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ، وأين ذهبت تلك الطقوس الدينية التي تُمارسها تلك الذوات التي مارست ذلك الجحود والنكران والبهتان والغش والتدليس.

إن تلك الأخلاق هي ممارسات ذواتنا وأرواحنا التي تكمن في أجسادنا، ولم تأتِ بشيء خارج عن نطاقها بل هي من ارتكبت تلك الآثام أي أنها هي التي أنشأت تلك التصرفات بإرادة وقصد وتصميم لغرضها التي تُريد تحقيقه وهو لا شك غرض وقصد لا يتصف بأي شيء من الحسن والخير، وهذه الإشكالية الحقيقية التي تُعاني منها الذوات الإنسانية في مجتمعاتنا وهي انفصام ظاهر وبينٌ يتردد بين السلوك والأخلاقيات التي تسعى إليها وتؤمن بها ذواتنا وبين الأفعال والتصرفات التي تُمارسها تلك الذوات الإنسانية في واقعها وحياتها المعاصرة، وهي ممارسات ناجمة عن رغبات سامة غير مشبعة لتلك الروح التي تُمارس تلك التصرفات المتصفة بالشر المحض ضد ذوات إنسانية أخرى، وهو (سم اخترق مسام بشرة)، تلك الذات القلقة التي تبحث عن تحقيق كل ما تحلم به أو تتخيله بشتى الوسائل والطرق معرضةً عن كل القيم والمبادئ الخيرة ولو أدى ذلك إلى تدمير وتحطيم الآخرين، وعند التأمل في تصرفات الذوات الإنسانية من خلال الوقائع والأحداث فإننا يمكن أن نُجمل إشكالية الانفصام بين السلوك والأخلاقيات في سببين ظاهرين وسبب آخر ظني الاحتمال، أما السببان فهما إما عدم اقتناع حقيقي وصادق بما تقوله تلك الذات الإنسانية، وتبشر به بمعنى أن لسانها يناقض ما هو مقرر في عقلها وراسخ في قلبها (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)، وإما أنها معتقدة بما تقوله وتدعو الناس إليه، لكن إرادتها ضعيفة أمام الشهوات وهمتها متدنية أمام الأهواء (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) فتنسى كل معتقداتها ومبادئها وتجعلها في مكان لا يُرى في زاوية من زوايا عقلها وروحها وذاتها فتصبح تلك الروح خاوية من كل المبادئ والقيم الخيرة والسامية، وهذا النسيان هو نسيان متعمد ومقصود وبسبق إصرار وترصد ورغبة في إلحاق الضرر بالآخرين، وها هنا تكمن عمق إشكالية الانفصام بين السلوك والأخلاقيات وبين الأفعال أنها تُترك وتُنسى عن رغبة وقصد فهي تحمل في طياتها إشكالية التناقض وهي معضلة بحاجة إلى تفكيك وإيضاح وبيان عملي ومواجهة للذات العابثة بتلك القيم والمبادئ الخيرة.

وأما السبب المحتمل فهو أن تكون هذه الذات الإنسانية تكذب في الفهم فإن الإنسان كما أنه يكذب في الكلام فقد يكذب في الفهم، وهذه معضلة حقيقية أُخرى بحاجة إلى إعادة النظر والتأمل في كل القيم التي تقتحمها الذات الإنسانية التي تُمارس الكذب في الفهم، فهي تُمارس كل الموبقات من خلال كسر كل حدود المبادئ والقيم بل وقلبها رأسًا على عقب حتى يغدو الخير شرًا والشر خيرًا، فعند الوصول إلى هذه الحدود المتدنية التي أمست الذات الإنسانية تُمارسها بكل جرأة فجة ولا مبالاة يتضح لكل إنسان خير، يمتلك الثقافة والمعرفة في أعماقه، قدْرَ الحمل الذي أُلقى على عاتقه في بيان وتوضيح تلك الإشكاليات دون كلل ولا ملل، وأن المحافظة على القيم والمبادئ الخيرة هي الهم الأكبر لكل صاحب معرفة وثقافة بل وإنه من المفترض أن تكون كل المؤسسات المعرفية والأكاديمية وكل كيان له تماس مع الذوات الإنسانية أن تبين تلك الإشكاليات حتى تحيا الذوات الإنسانية في مجتمعات آمنة ومستقرة وتحمل قيم الخير التي ترمي وتصبو لها الذوات الإنسانية الخيرة.