يشكل موضوع البحث العلمي حجر الزاوية في تقدم المجتمعات والدول لأهميته الكبيرة من أجل فهم أعمق ورؤية أوضح للمستقبل ومستجداته الممكنة أو المتوقعة، لذا، تحاول المجتمعات المتقدمة مواصلة الإمساك بزمام مسائل البحث العلمي لصناعة حاضرها ومستقبلها. بيد أن ما يلفت الانتباه مؤخرًا، هو المعنى الجديد الذي تروج الدول من خلاله لمفهوم «البحث العلمي» والذي اكتسب أبعادًا أوسع ومعاني جديدة في القرن الواحد والعشرين، فقد أصبح أكثر تشاركية على مستوى الدول المتقدمة، بحيث لم يعد مقصورًا على النطاق الجغرافي للدولة الواحدة، بل تحول من حالة الخصوصية إلى باحة أكثر شمولية وتنوعًا تتشارك فيه دول عدة العمل على مشروع بحثي واحد ومن أمثلة ذلك برامج Horizon وThousand Talents وEndless Frontier Act.

الجامعة غير المرئية

تذكر كارولين فاجنر في كتابها «الجامعة غير المرئية»، أن «العلم يزدهر بشكل أفضل ضمن العالم الخالي من الحدود الجغرافية «الوطنية»، بحيث تتحول المعرفة من مُليكة علمية مخصوصة بحدود دولة ما، إلى فرصة علمية تتجاوب مع القدرات التي يمكن أن تدفع بها إلى أقصى حد ممكن نحو التحقق والنجاح».

مشاريع الـMega Projects

يرى الأستاذ المساعد في جامعة الحدود الشمالية الدكتور رويشد الرويلي، أن من «أسباب التحول إلى تشاركية البحث العلمي، حاجة المشاريع العلمية الضخمة لميزانيات وموارد هائلة باتت ترهق كاهل الدولة الواحدة مما يشكل عبئا مالياً يثقل بالتالي كاهل دافعي الضرائب بشكلٍ أو بآخر».

وأضاف «من الأسباب الأخرى، محدودية القدرات البشرية والتقنية أو غياب بعض منها داخل الدولة الواحدة مما يعزز الحاجة إلى مسألة تشاركية البحث العلمي بين الدول».

وتابع «المشاريع البحثية العلمية الضخمة mega projects تتطلب من الوقت أطوله، ومن الجهد أفضله، لتحقيق الأهداف والطموحات المبتغاة وهذا قد يمنع عددا من الدول من تحمل ذلك نظرًا للكلفة الباهظة وفترة الانتظار التي يحتاج البحث العلمي وتجاربه المرور عبرها للوصول إلى نقطة النهاية».

الجائحة والبحث العلمي

ذكر الدكتور الرويلي، أن «جائحة كورونا أحد الأدلة الواضحة للعيان حول المعنى المكتسب الجديد للبحث العلمي التشاركي، فالإنجازات العلمية السريعة التي لم تكن لتحدث لو لم تتجه الدول لتشارك الأهداف والغايات العلمية للأبحاث للوصول إلى نتائج طبية بأسرع وقت ممكن من خلال استثمار القدرات البشرية والعلمية وتشارك المعدات المخبرية لمعالجة الجائحة، فقد تُولد الفكرة البحثية في بريطانيا، ويصنع المنتج في إيطاليا، وتجرى التجارب السريرية في أمريكا والبرازيل».

ويضيف «أن هذه التشاركية البحثية والتداول للموارد والقدرات البحثية البشرية والمخبرية، أسهمت بشكل أساس في إنتاج عدة لقاحات لفيروس كورونا في وقت قياسي».

التشاركية أم الأولوية

أكد الرويلي، أن «مفهوم تشاركية البحث العلمي، لا يعني بأي حال من الأحوال خروج الأهداف البحثية الوطنية من دائرة الأولوية للدول، فلكل بلد رؤيته العلمية التي يسعى لتحقيقها والتميز من خلالها دوليًا، إلا أن تلك الاهتمامات البحثية والعلمية تختلف باختلاف الأولويات من بلد إلى آخر، فخلال الأشهر الأولى لجائحة كورونا على سبيل المثال، أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن نجاح جهاز الصحة البريطانية NHS في إجراء تجربة recovery للقاح ديماكسون لإنقاذ حياة 22 ألف مصاب بـفيروس COVID-19 داخل المستشفيات البريطانية. بيد أن المهم هو قدرة الدولة الواحدة على خلق بيئة توافقية تجمع ما بين الهدف العالمي بصيغته «التشاركية» والطموح المحلي كأولوياته «الوطنية» في ذات الوقت».

Horizon الأوروبي

«البرنامج الأوروبي Horizon والذي بدأ في ثمانينيات القرن الماضي ما زال مستمرًا وفقًا لخطط مرحلية تمتد كل مرحلة منها لفترة سبع سنوات، وتعد المرحلة الحالية للبرنامج هي الأعلى من حيث قيمة الميزانية وعدد الدول الأوروبية المشاركة حيث تم إقرار ميزانية البرنامج بمبلغ 116 مليار دولار».

برنامج MRIP

من التحديات التي قد تواجه بعض البرامج البحثية، كبرنامج multinational research and innovation program الذي يواجه عددًا من التحديات في الآونة الأخيرة، من أهمها خروج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوربي عبر اتفاقية Brexit كونها من أكثر الدول الأوربية دعمًا للبرنامج ماليًا وبشريًا، إلا أن التساؤلات لا تزال تطرح، فيما إذا كانت بريطانيا قد سعت من خلال خروجها من منظومة الاتحاد الأوروبي إلى تجديد قدراتها البحثية والبشرية وطنيًا بعيدًا عن بقية دول القارة العجوز؟ أم أنها تحاول بعث قوتها البحثية والعلمية والاقتصادية من جديد عبر إعادة تواجدها في مجالها الاستعماري القديم في شبه القارة الهندية على وجه التحديد؟».

Erasmus

ينضوي برنامج Erasmus program على عدة برامج علمية فرعية تشمل علوم الفضاء ومشاكل التغير المناخي، إضافة إلى برامج التبادل الثقافي للطلاب المعروف بـErasmus program والبرنامج مسؤول بشكل كبير عن توفير الدعم اللازم للأبحاث النظرية والتطبيقية داخل منظومة الاتحاد الأوربي. وهكذا يشكل هذا التعاون البحثي حجم الميزانية المالية الضخمة وتوفر القدرات البشرية البحثية الهائلة، مما جعل عددًا من الدول الأوروبية وعلى وجه الخصوص الدول الأوروبية الصغيرة مثل قبرص ومالطا ودول شرق أوروبا التابعة لما عُرف بالاتحاد السوفيتي تحرص على البقاء ضمن حلقة هذه البرامج.

يذكر أن مكتشف لقاح فايزر، الدكتور أُوغور شاهين Ugur Sahin كان أحد المستفيدين من دعم برنامج Erasmus program في وقت سابق.

Thousand Talents Plan

يعكس برنامج Thousand Talents Plan الصيني الذي بدأ عام 2008، طموح الحكومة الصينية للظهور بوجه جديد عنوانه التمدد عبر الابتكار. فالصين التي عرفت «بالتقليد» وليس «الابتكار» في ميدان البحث العلمي تحاول جاهدة أن تكون المنصة القادمة لجذب الباحثين والمخترعين مما يشكل قوة إضافية لهذا البلد. وقال الرويلي، بالرغم عن توافر معلومات حول الرقم الفعلي لميزانية برنامج TTP، إلا أن مخرجاته تبدو كبيرة، حيث استفاد ما يقرب من 60 ألف عالم وباحث من البرنامج الصيني منذ انطلاقته وفقًا لما جاء في أحد تقارير الكونجرس الأمريكي.

know-how

«البرنامج الصيني وإن اختلف عن البرنامج الأوروبي ظاهريًّا، فإنه ينطلق من ذات الفكرة ضمنيًا، مع الأخذ في الاعتبار أن البرنامج الصيني لا يوجد به أي دولة أخرى غير الصين، وإن كانت عدد من الدول تشارك بأفضل العقول لديها بطريقة غير مباشرة».

«والبرنامج يحقق للصين بعضًا من توجهاتها في العمل على استقطاب الباحثين من أمريكا وبريطانيا وأستراليا وكندا وألمانيا وسنغافورة، حيث يوفر البرنامج المنح والدعم المالي والبحثي مقابل إشراك الصين في تسجيل براءات الاختراع لأحدث الابتكارات والاختراعات. منح هذا التوجه الصين مجالًا كبيرًا للحصول على أحدث التقنيات أو ما يعرف بـknow-how مقابل دعم الأبحاث أو تجهيز المعامل مما أدى لزيادة أعداد براءات الاختراع الصينية منذ وقت بدء البرنامج».

تحديات تواجه برنامج TTP

يرى الرويلي، أن اتهام الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب والكونجرس الأمريكي للصين بالتجسس وسرقة «التقنية الأمريكية» وسرقة الملكية الفكرية وإيقاف التعامل مع شركات التقنية الصينية ومنها شركة Huawei شكل أحد أبرز التحديات للبرنامج، إضافةً إلى ملاحقة العلماء المشاركين بالبرنامج ومطالبتهم بالإفصاح عن أي مبالغ تلقوها كدعم للمشاركة في هذا البرنامج.

وأضاف «أحد أوضح الأمثلة لهذه الملاحقات، ما حدث لرئيس قسم الكيمياء بجامعة هارفارد، المرشح لنوبل الدكتور شارلز لايبر Charles Lieber ومطالبته بالإفصاح عن علاقته بمعمل ووهان الصيني، المتهم بنشر فيروس كوفيد-19».

Endless Frontier Act

لمواجهة المد الصيني الاقتصادي والعلمي، أفصح الرئيس الأمريكي جو بايدن عن خطته لصرف ما يقارب الـ250 مليار دولار أمريكي، لتطوير مجالات البحث العلمي والبنية التحتية. حظي البرنامج بموافقة الكونجرس بشقيه الجمهوري والديمقراطي مما يجعل منه أكبر برنامج علمي من حيث حجم الميزانية.

وصرح السيناتور Schumer وهو أحد أهم مناصري الخطة، أن هذه الخطة هي «أكبر استثمار في مجال البحث العلمي وتقنيات المستقبل منذ عقود، والذي من شأنه أن يضع الولايات المتحدة الأمريكية في المقدمة لمواصلة قيادة العالم في صناعات المستقبل».

أولويات البرنامج البحثية

خطة برنامج Endless Frontier Act الأمريكي حُددت بعدد من الأولويات من ضمنها ضرورة الجاهزية للجائحة القادمة، كذلك مواجهة مشاكل التغير المناخي، ومواصلة الابتكار في مجال التقنيات المدمجة.

يشرح شعار البرنامج “invent it here; make it here” وترجمته «نبتكر هنا، ونصنع هنا» بديلاً عن “invent it here; make it there” وترجمته «نبتكر هنا، ونصنع هناك».

أزمة أشباه الموصِلات والرقائق الإلكترونية

من أبرز الأمثلة التي تترجم أهمية البدء في البرنامج، الأزمة التي طالت توفير (أشباه الموصِلات والرقائق الإلكترونية) أثناء الجائحة مما اضطر العديد من المصانع الأمريكية إلى تقليص إنتاجها إلى مستوياته الدنيا. لذلك، خصصت الخطة مبالغ كبيرة لدعم وتشجيع صناعة أشباه الموصِلات والرقائق الإلكترونية داخل حدود الولايات المتحدة الأمريكية. وتعمل الخطة على استقطاب العقول الأجنبية والباحثين الأجانب في البحث العلمي من أصحاب المهارات العالية عبر زيادة عدد التأشيرات الممنوحة للطلاب في تخصصات التكنولوجيا والهندسة.

الشراكة الأمريكية - الأوروبية

الاتفاق بين برنامج Endless Frontier Act الأمريكي وبرنامج Horizon الأوروبي، يعبر عن جدية الولايات المتحدة للعودة بقوة على المستوى البحثي الدولي. ففي يونيو 2021، وقع الرئيس الأمريكي والاتحاد الأوربي اتفاقية تشكيل (مجلس التجارة والتقنية الامريكي الأوربي) EU-US Trade and Technology Council (TTC) لتعزيز التعاون في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والتقنيات الصديقة للبيئة.

كما يسعى الرئيس بايدن لتوسيع مشاركة الباحثين الأمريكان في البرنامج الأوروبي Horizon مما يعزز من قوة كلًا من أوربا وأمريكا في مواجهة التمدد التقني الصيني.

برامج التقدم السعودية

بالرغم من اختلاف البرامج من حيث أحجام الميزانيات والسياسات البحثية التي تتبعها، فإنها جميعًا تتفق على أن البحث العلمي هو الطريق الأهم للتقدم، وأن المشاركة والتعاون البحثي وتنوع القدرات أفضل الطرق لتحقق الأهداف.

على الصعيد الوطني السعودي، تتحقق عدد من أهداف رؤية المملكة 2030 والتي تجلت مؤخراً في الإعلان عن إنشاء (هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار)، وكذلك إنشاء (الهيئة العامة للتطوير الدفاعي) مما يجعل المملكة تخطو بثبات على مسارات التقدم البحثي العلمي والتقني.

التشاركية كحل

إدراك المعنى الحديث للبحث العلمي الذي بات يتجاوز الحدود الجغرافية للدول، يحفز الدول للمشاركة في البرامج العلمية الدولية للاستفادة من القدرات، ولعل الدعوة المقدمة من البرنامج الأوروبي Horizon لكل من كندا واليابان للانضمام للبرنامج مثالًا جليًا لذلك التوجه.

وليس شرطًا أن تشارك الدولة في كامل تلك البرنامج، فهناك عدد من البرامج المنبثقة من البرنامج العام التي يمكن المشاركة في أحدها لتعزيز تحقيق الأهداف الوطنية والجمع ما بين المشاركة الدولية والأولية البحثية الوطنية.

أهمية التشاركية

ـ تحفز الابتكار والإبداع والبحث العلمي.

ـ تعود بالنفع على جميع الجهات المشاركة.

ـ تهدف إلى الوصول إلى الحقيقة من جميع الجوانب.

ـ تضفي قيمة علمية كبيرة تعزز مصداقية النتائج النهائية.

الاستثمار في البحث العلمي

2500 شركة ومؤسسة في القطاع الخاص تصدرت الإنفاق في البحث العلمي والتطوير، بينها:

778 شركة أمريكية

577 شركة أوروبية

438 شركة صينية

339 شركة يابانية

368 شركة من بقية أنحاء العالم

25 مليون يورو في السنة حجم استثمارات كل شركة منها في البحث العلمي

46 دولة تنتمي إليها الشركات الـ2500

736.4 مليار يورو مجموع ما أنفقته تلك الشركات عام 2018

27.6 % من إجمالي الإنفاق يذهب للبحث العلمي