بحلول الربع الأخير من عام 2019، انقلبت موازين العالم رأسا على عقب، دبت حالة عامة من الذعر لم يكن من الممكن سترها بغطاء ثقيل، وكأن البشرية جمعاء كتب عليها أن تكون جزءا من فيلم رعب، يتحدث بغلظة عن نهاية العالم.

ومع بداية مارس العام الفارط، تغيرت الحياة كليا داخل المملكة على أصعدة لا حصر لها، تزامن ذلك مع دخول أول حالة فيروس كورونا إلى أراضينا، وكم كان وقع ذلك عظيما في الأنفس، بينما كنا نلهج بالدعاء ألا يعم الوباء.

ولكننا دخلنا المعترك، مثل أي بقعة من الأرض، طحنتنا الرحى التي كنا نظن أننا بمنأى عنها، لحقتنا أيدي الكارثة، التي بدأت بطبق شوربة سخيف لفتح الشهية الجنسية، نالت منا ما نالت، وألبست وجه العالم كمامة سميكة في وقت قياسي.

لا أحد بمقدوره اليوم نسيان المنظر الموحش للشوارع الفارغة، التي كنا نتوق لإرتيادها مجددا، لا أحد منا ينسى ضجره من الحبس الإجباري في المنازل، بينما الحياة في الخارج تصاب تدريجيا بالعطب، ولا أحد يستطيع نسيان القلق الذي كان يتغذى علينا بخصوص أعمالنا، وأؤلئك الذين خسروا وظائفهم، لا يمكنهم اليوم تجاوز الفكرة خوفا من تكرارها.

كلنا شهدنا ولأول مرة في تاريخ كل فرد عربي مسلم، كيف أفرغ بيت الله ونحن ننظر بلا حول ولا قوة !، وكيف تحول العالم من قرية مفتوحة المنافذ على الأفق إلى قرية «مهجورة»، صارت مرتعا للحيوانات، التي وجدت مساحة كافية وآمنة لتتحرك دون قيود البشر.

بالتأكيد، بل وبكل تأكيد، سيتذكر أصحاب الأعمال الناشئة والكبيرة خسائرهم الفادحة على حد سواء، وستتذكر العوائل أسماء مفقوديها، الذين تخطفهم الموت حين حاولوا الانزواء بعيدا عن سهامه المتربصة.

العام المنصرم بكل ما فيه أرخ حياتنا، غير نظرتنا للحياة، فتح عيوننا على قيمة الأشياء الحقيقية، قادنا إلى الداخل، إلى نور الجوهر.. فتح لنا طريقا لنعرف أكثر مما كنا نعرفه عن ذواتنا وتكوينها وتقلباتها، وقدرتها على الانخراط في التيار دون فقد الرغبة في المقاومة، دون انثناء العزيمة.

نحن اليوم غير ما كنا عليه في العام قبل الماضي، عبرتنا سنة الوباء، وغيرت في مجرانا ما لا يمكن العودة به إلى سابق العهد.

الآن وقد انتبهنا، بعد أن مررنا بكل ما مررنا به، الآن وقد وصلنا إلى ضفة النجاة، محملين بزاد غير الزاد الذي نفد، مقبلين على الحياة الجديدة بمزيد من الطمأنينة، يستحق الأمر وقفة، على البر الجديد، قبل أن نوغل في حياتنا مجددا لكي نمد يدا شاكرة لألطاف الله أولا، ثم لحكومتنا الرشيدة، التي بذلت جهودا قصوى، بل كانت مضربا للمثل في احتواء الأزمة، من أجل العبور بنا من فوقها بأقل الخسائر الممكنة.

واجبنا الآن أن نمد يدا شاكرة وممتنة بحرارة، لكل وزارة ولكل وزير فيها، ولكل جهة ولكل فرد فيها، أدار الدولاب بمشقة، لكي نتحرك باتجاه الحياة الطبيعية آخر النفق، مهما كان الثمن ومهما أوجعت الأزمات والمتغيرات. ً