خمس سنوات كاملة فصلت بين الجولة الخليجية لخادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز وجولة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث كانت جولة خادم الحرمين التي وصفت آنذاك بالمفصلية في ربيع الأول 1438، ديسمبر 2016، وزار خلالها أربع دول خليجية هي: الإمارات وقطر والبحرين والكويت، وحضر في أثنائها الدورة السابعة والثلاثين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون في البحرين، وقتها كان العالم العربي يلملم أطرافه ويتفقد جراحه بعد أحداث ثورات ما سمي «الربيع العربي»، ويعيد ترتيب بيته بعد أن انكشفت مؤامرة الشرق الأوسط الجديد، وغادر أبطال المسرحية الرئيسيون خشبة المسرح وانكشف الممثلون الذي استمروا في أدائهم الرديء رغم انكشافهم.

وكان البيت الخليجي مع كل هذه التداعيات قويا في داخله، متماسكا في ما بينه، على الرغم من الخلافات التي كانت تعالج صغرت أو كبرت في الأروقة الدبلوماسية بالتفاهمات حينا والتسويات أحيانا، وما لا تقدر عليه السياسة يتم حله باللقاءات الشخصية وحب الخشوم وقلب الصفحات، وبقيت السعودية في جميع هذه الظروف والتفاعلات السياسية الشائكة هي الشقيق الأكبر للجميع، والمحتوِي لكل ما ينشأ، والمتحمل لكل ما يحدث، قناعة من الجميع بأن المملكة العربية السعودية هي العمق الداخلي التاريخي والبشري والشعبي والثقافي والاجتماعي، لأنها هي الثابتة والدائمة، وإدراكا منهم أن السياسي والاقتصادي متحول، ويقينا أيضا أن السعودية ثابتة حتى في تحولها وليست متحولة عن ثباتها القائم على المبدأ والمسؤولية.

كانت السنوات الخمس بين الزيارتين عاصفة بكل ما يحمله الجذر «عصف» من دلالات، فكورونا خيمت على العالم كله وألقت بظلالها الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتنموية على الجميع، ولكن دول الخليج استطاعت أن تستثمر الأزمة في مكاسب تنموية ما كان لها أن تتحقق بهذه الجودة والسرعة في الظروف العادية، في حين أن دول العالم الأول والثاني ناهيك عن الثالث ما زالت تجاهد للخروج من عنق الزجاجة، واقتصاديا أسهمت السعودية من خلال دورها الريادي في مجموعة دول العشرين ليس في تعافيها الاقتصادي فحسب، وإنما في مساعدة الدول شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في التعافي الاقتصادي، أما العواصف السياسية فكانت السعودية ومعها دول الخليج على اختلاف في الأدوار تقوم بمهمة تفكيك الألغام في محيط عربي ملتهب، فإيران ما زالت متغولة في أربع عواصم عربية وقطاع غزة واختطفت فيها القرار السياسي بشكل سافر حتى أصبح سياسيون في هذه العواصم يتبجحون بشكل مزرٍ أن القرار يملكه حزب الله وإيران، وليبيا مزقتها الحرب الأهلية وسط تدخل أجنبي على رأسه تركيا أسهم في إذكاء اشتعال النيران، وتونس والسودان تشهدان عدم استقرار سياسي، وهناك قطيعة بين الجزائر والمغرب، أما الاقتصاد فحدث ولا حرج، منذ أن انخفضت أسعار النفط إلى ما يشبه الانهيار ومع ذلك تماسكت الدول الخليجية النفطية، وكانت القضية الأبرز هي القطيعة مع قطر في 2017، وقيل وقتها إن التعاون بين دول الخليج قد انتهى دوره ولم يعد له وجود، وراهن كثير من المشرعين والمحللين والسياسيين على ذلك.

ومع كل ذلك كان التعاون والتنسيق البيني بين دول الخليج مستمرا على أعلى المستويات، بين السعودية والإمارات والبحرين ثم الكويت وعمان، وبقي الباب مواربا مع قطر من خلال جهود وساطة أمير الكويت الراحل صباح الأحمد، ثم الأمير الحالي نواف الأحمد الصباح.

بعد هذه السنوات الخمس ومع مطلع عام 2021 كان المشهد الخليجي على النحو التالي:

دول الخليج الست مستقرة ومزدهرة وخطى التنمية فيها تسير بخطى حثيثة وواثقة ومدروسة، وترتيبها في معظم المؤشرات العالمية في المراتب المتقدمة، وتتقدم أكثر، والعلاقات في جميع المجالات تسير وفق مجالس رفيعة المستوى، والزيارات الأخوية تتم دون بروتوكولات وضجيج وأضواء، وعندما تولى السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم في السلطنة بعد وفاة السلطان قابوس كانت أول زيارة خارجية رسمية له إلى السعودية في مطلع هذا العام، وبعد وفاة أمير الكويت صباح الأحمد وتولي الشيخ نواف الأحمد الحكم كانت أول زيارة لولي العهد الكويتي مشعل الأحمد الصباح منذ توليه المنصب إلى السعودية في مايو 2021 ثم جاءت قمة العلا لتسكت كل الأفواه التي لم تكن تريد بالخليج وأهله خيرا في يوم من الأيام.

واليوم يبدأ سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان زيارته التاريخية إلى دول مجلس التعاون جميعها، والعالم اليوم يختلف عن العالم قبل خمس سنوات، والخليج هو غير الخليج قبل 2021، والسعودية بعد الرؤية هي سعودية جديدة لم يكن أكثر الجامحين في تفاؤلهم يتوقع أن تصل إلى ما وصلت إليه الآن، ونحن لم نقطع بعد إلا الثلث الأول من الخط الزمني لرؤية 2030، ومعروف أن الثلث الأول في أي مشروع مهما كان بسيطا ينقضي معظمه في الإعداد والتخطيط والإصلاح والتهيئة، ثم تتسارع الخطى وتعظم النتائج في الثلثين الأخيرين.

تتجه الأنظار جميعا إلى هذه الزيارة ليس لأنها زيارة خليجية للأشقاء، ولا لأن هذه أول زيارة خارجية شاملة لولي العهد بعد سنتي كورونا، ولكن لأن ما حققته السعودية في هذه الأعوام ودورها وثقلها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية، وتجربتها الناجحة والفريدة في الرؤية ونموذجها المتفرد في تحقيق الرؤية والمشروعات العالمية العملاقة والمدهشة للعالم بقيادة خادم الحرمين الشريفين وقائد رؤيتها الأمير محمد بن سلمان تلتقي مع قادة الخليج حيث لعمان رؤيتها الجديدة بقيادة سلطانها هيثم بن طارق، وحيث يلتقي في أبوظبي ولي عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد، والملك حمد آل خليفة في المنامة، والشيخ تميم بن حمد في الدوحة، والشيخ نواف الأحمد الصباح في الكويت، ولكل من هؤلاء القادة مشروعه التنموي الأنجح والأبرز إقليميا وعربيا ودوليا، ليدخل الخليج عام 2022 صفا واحدا وروحا واحدة وفكرا مكتملا وعملا متكاملا.