تعددت وسائل الحوار والتواصل وكثُرت البرامج والتطبيقات التي تُقرب الأفكار والأشخاص افتراضيًا بشكل ملحوظ. وما يشد الانتباه ويسترعي سمع المتأمل والراصد، هو ذلك الوصف الدقيق لحقيقة تلك الوسائل، «الافتراضية» وهو وصف ملازم لها ولا ينتقل منها، فهو ليس حالًا متنقلة، بل وصف ملازم للموصوف، وهذه إشكالية الإشكاليات، ذلك أن هذا التطور والتقدم الملحوظ في تلاقح الأفكار والأشخاص عندما حدث ويحدث في المجتمعات التي تطورت، كان ويكون واقعيًا، لم يكن افتراضيًا، والإشكالية في العالم الافتراضي أن أصحابها يظنون أنهم يتطورون ويتقدمون كما العالم المتقدم، وأنهم يخلقون شكلًا من الحوار المدني الديمقراطي الذي كان سببًا في تقدم وتطور المجتمعات التي وصفت بأنها تُمثل العالم الأول. وصف «الافتراضية» يتوجب أن يفقهه كل واحد على وجه اليقين، بأنه عالم غير حقيقي وليس له أي أساس من الواقع، وأنه والوهم سواء، ويُشبه الخيال الذي يجول ويسري في العقل والنفس البشرية، ثم يذهب ولا يبقى منه شيء، كالسراب. علاج الأفكار وتنميتها ومحاربة الأفكار المتطرفة والمتشددة التي كانت ولا تزال هي التي تُغذي أفراد المجتمع، لا يكون من خلال الأساليب الوهمية والافتراضية، بل من خلال تفكيك الواقع الحقيقي للفكر الإنساني، ومن خلال التفاعل الحقيقي لأفراد أي مجتمع، سواءً كان ذلك التفاعل إعلاميًا من خلال الحوارات بالمنتديات الواقعية أو الحوارات التلفزيونية أو الإذاعية، أو من خلال المحاضرات والتجمعات المدنية، فتلك التفاعلات الواقعية لجميع أفراد وطبقات المجتمع، واختلاطهم ببعضهم البعض، هي المولد الحقيقي لإنتاج الأفكار وخلقها وإعادة تكوينها وبحثها ودراسة تكوينها الحقيقي، والنظر فيها وفي ماهيتها، كي تُفهم وتكون أفكارًا سهلةً ومستساغة، ووضعها على المقياس الحقيقي المتمثل في العقل الإنساني الواعي وأصوله الفكرية التي تأسس عليها، سواءً كانت مستمدة من فلسفة التشريع الإسلامي ومقاصده التي لا تقف عند مذهب معين أو مسار فقهي محدد، أو كانت مستمدة من فلسفات إنسانية تتوافق وتتناسب مع المقاصد التشريعية الكبرى. بل إن أبواب فلسفة التشريع الإسلامي ومقاصده واسعة وضخمة وتتسم بالمرونة بحيث إنها تتسع لكل زمن وتتشكل مع كل بيئة، شرط أن تتغير البيئة الفقهية والرؤية والتصور الحقيقي لإشكاليات كل زمان وما يرتبط به من مكان تتعلق به إقليميته وأحوال أفراده وما يُحيط بهم من ظروف تتناسب وتلك المقاصد التشريعية الكبرى التي تُراعي تلك الأحوال والظروف، وهذا ما ينقص المساحات الافتراضية والوهمية القائمة على الانفلات والعبث الفكري الذي يتأسس على الجهل المركب في كل شيء. هو جهل بأصول اللغة والنحو بل وبجميع قواعد اللغة العربية، وجهل بأصول الفقه، وبجميع قواعد وأبواب الفقه الكبرى وما يتفرع منها، وجهل بحقائق التاريخ، وجهل بقواعد التفسير، وبقواعد الجرح والتعديل، وبأصول التقاضي، وبأمور التشريعات. وذلك أن تلك المساحات فيها من يتكلم في كل ما يتعلق بتلك العلوم ويخبط فيها خبط عشواء، وتجد فيها من يتزبب قبل أن يتحصرم، تجد ذلك العامي الذي يسمع آيةً أو حديثًا أو قولًا فقهيًا، فيُريد أن يُناقش ويجادل ذلك القول أو يطعن في المعنى المستمد من ذلك الحديث أو تلك الآية، أو يطرح اعتراضات على معنى من المعاني، أو يحاول أن يفهم ركنًا من أركان الإيمان بخلاف ما فهمه أهلُ العلم المؤسسون لتلك العلوم سواء كانت في الشريعة أو العربية أو الأصول أو علوم الحديث أو التفسير أو التاريخ. الإشكالية فيمن يتحدث في تلك المساحات تكمن في أنه لا يملك الأدوات العلمية والوسائل التي تؤسس للفهم فيما يقوله أو يتحدث عنه، فمن يتحدث في أمر من أمور التشريع الفقهي أو العقدي أو يتحدث في علوم التفسير، يجب عليه وجوبًا أن يكون متمكنًا من علوم تُسمى علوم الآلة عند العلماء من الفقهاء والأصوليين والمفسرين والمحدثين، فمثلًا من أراد أن يتحدث في حكم فقهي يتوجب عليه أن يكون دارسًا لجزئيات الفقه وملمًا بعلم النحو والصرف وعلوم البلاغة، ومتمكنًا من علم أصول الفقه وملمًا بالقواعد الفقهية، حتى إذا قرأ كتابًا فقهيًا يعي ويفهم ما يقوله أولئك الفقهاء المؤسسون لتلك العلوم، ثم بعد ذلك إذا وجد من نفسه أنه له القدرة والاستطاعة على بحث تلك الأقوال بحثًا علميًا، وكانت له قوة الفهم والإدراك والوعي كي يختار قولًا من تلك الأقوال الفقهية المتأسسة على الأدلة التشريعية، فإن ذلك الاختيار عندئذٍ يكون مقبولًا. أما إذا كان ذلك الشخص لا يستطيع أن يقرأ آيةً أو حديثًا قراءةً صحيحة من حيث العربية والتأسيس النحوي السهل، فإن هذا أني أن يكون له أن يختار قولًا، فضلًا أن يرد ويناقش ويحاور من لديه علم وقد تأسس تأسيسًا علميًا صحيحًا. لذلك فإن كثيرًا من تلك المساحات تتسم بالفكر الأُحادي والذي لا يعي ولا يفهم أن هناك خلافًا فقهيًا مثلًا في مسألة فقهية مشهورة عند الفقهاء، فيؤسس فكره على ما تلقاه من مجتمعه من أن ذلك القول الفقهي هو الدين وهو التشريع المسلم به، وهذه خطورة الرأي الأُحادي في أمور الشريعة، وهذه نتيجة عسف وقسر الناس على رأي واحد يحسب صاحبه أنه هو الدين، ولا يُراعي أن الغوغاء والعامة لا يمكن السيطرة عليهم بعد تغذيتهم بفكر متطرف، هذا إن لم يكن صاحب الرأي من العامة. لذا فإن إدراك السيطرة على ذلك العبث الفكري والفوضى العلمية القادحة في المعرفة من أوجب الواجبات على كل مسؤول في كل مجتمع سوي يطمح كي يتطور ويتقدم.