كَتبَ الصادقُ النيهوم مقالاتٍ مُنَجّمة في صحيفةِ «الحقيقة» من 1966إلى 1971، ثم نُشِرَ بعضها في كتابٍ بعنوان «ماذا يريد القارئ؟»، فوضعَ جامعُ المقالات مقدمة بعنوان «وماذا يريد الكاتب؟». هذه المعادلة «الكاتب /‏ النص /‏ القارئ» ستظل همّا؛ إذ سيأتي معها سؤال: كيف نكتب؟ ولمن نكتب؟ ولماذا نكتب؟. هذا السؤال لا يخص الفرد، بل هو سؤال المؤسسة التي تهتم بتسويق منتجها من خلال المقالة.

يقول «النيهوم»: «الكُتَّاب الشُبَّان في بنغازي يحفرون ترابنا بأظافرهم، بحثا عن شيء يقولونه، ولكنَّ أصدقاءهم يريدونهم أن يكتبوا عن الأتوبيسات فقط. أتوبيسات أيها السادة!، حتى تُصبح صُحفنا كراجًا». والمراد هنا أنَّ مشكلة الأتوبيسات هي جزءٌ من أمراضنا، فَلِم تحصرون الكاتب بها؟. ونلحظ هنا أنَّ الكاتبَ حصرَ نفسَه أيضًا بأصدقائه!، أي بقارئٍ واحد. كما أنَّ القراء/‏الأصدقاء حصروا أنفسهم بكاتبٍ واحد، وهنا إحدى المشكلات. لذا يجدر بنا أن نُعيدَ النظر في نسبية سؤال: لمن نكتب؟. ففي المؤسسات التي لديها صفحة ثقافية تعتمد على «الرأي»، والرأي مُتعددٌ بتعددِ الأفراد ومجالاتهم، وأفق خطاباتهم، فهل المقياس هو «فهم» مُتلقٍ واحد للحكم؟. الإجابة المباشرة: لا، لكن مع الاستسلام لسلطة خطابٍ ما (وسائل التواصل هنا)، فإنَّ الإجابة: نعم، مع توهم أننا نقيسها على متلقين كثر. وهنا نعود لإشكالية «النيهوم»، وهي «التصرف» على أنَّ ثمة متلقين كُثر بعقلٍ واحد، وكُتَّاب كُثر بقلم واحد.

هذا يُحيلنا إلى موضوع «النخبة/‏الشعبي» وجدليتها؛ إذ يتعاطى معها البعض بصورةٍ واحدة؛ أعني بالمفهوم الطبقي الذي جاء من مفاهيم العصور الكلاسيكية، حين يقول النخبوي إنَّ التغيير يأتي من خلال وعي النخبة، وأمَّا الناس الآخرون، فليسوا أهلا إلا للتنفيذ بعد تشربهم أفكار النخبة!. وحين تكتب النخبة، فإنَّه للنخبة، وإن أرادَ غيرهم الفهمَ، فليرتفع بثقافته، ليصل إلى الوعي الذي حدده الكاتب وطبقته.

هذا المفهوم سقط وانتهى، ومن ثم ظُنَّ بعد سقوطه أنَّ الكتابة أصبحت لمتلقٍ واحد، هو ما أسموه تسمية - لا معنى لها سياقيا - هي «الناس العاديون». والمفارقة أنَّ هذا السقوط يعني تعدد المتلقين، لا توحدهم؛ لأنَّ الذي سقط هو الفكر النخبوي، لا المتلقي القديم، والكتابة المتعددة بتعدد الخطابات وآفاق المعرفة، إذ من آثار التعددية تعددية المجالات وأفق الخطابات، وتنوع الأساليب.. إلخ. ففي الفلسفة - مثلا - نرى وزارة الثقافة - سعوديا - أسَّست جمعية للفلسفة، وفي موقع الجمعية مقالات وأبحاث لمتلقين متعددين مع أنها في تخصص واحدٍ هو الفلسفة، إلا أنَّ الفلسفة فلسفات، وتحديدا حين نتأملها من منظار مرحلة ما بعد الحداثة. فإذا كان هذا في تخصصٍ واحد، فكيف بتعدد التخصصات؟. إذن الطبيعي - فيما أظن - أنَّ المنشأة أو المؤسسة تسعى لتعدد متلقيها، لتواكب مرحلة «الما بعد»، مرحلة التعددية، خصوصا في مجال «الرأي». ومِن طُرق السعي ألا يكون الكُتّابُ نُسخًا متشابهة، مقياس المراد منها هو عدد «الرتويت»!، لأنَّ الـ«المُرتوتين»! مختلفون في مفهوم «الرتويت»، أي أنَّ قلة «الرتويت» لا تعني - لزوما - عدم التعاطي، بل قد تعني أنَّ التعاطي له مجال أرحب وأعمق من أن نقيسه بـ«الرتويت»، إذ إنَّ ثمةَ ما يُسمى «التعاطي الصامت»، أي الصمت عن التعليق الفارغ (والرتويت تعليق صامت). ومن المفاجأة أن يكون عدم «الرتويت» دليلا على المقروئية، لهذا نجد - دائما - من يُعلق - إيجابا أو سلبا - على إحدى المقالات في المجالس، أو في مقالة في صحيفة أخرى، أو في مساحات «الإنترنت» المختلفة، مع أنه لم «يُرتوت»؛ مما يدل على مقروئية المقالة، لكن لم يرصدها الكمبيوتر؛ لأنَّ مقاييسه عمياء بحسب تعريفنا للعمى/‏النظر. قد يُقال: خذ ما تشاء من المجالات، ولكن المراد كيف نكتب؟، وسؤال: «كيف نكتب؟» خاضع للنسبية نفسها؛ إذ بتأمل هذا السؤال نرى أنَّ كيفية الكتابة مُتصلة بنوعِ ما يُكتب، وأدواته وتاريخه - بشكل من الأشكال - وأهدافه؟، فمثلا الدكتور عبدالله الغذامي هو من كتب عن سقوط النخبة وبروز الشعبي، لكن هل ما يكتبه - الآن - في الصحف متوجه لقارئ واحد، مفهومه «الناس العاديين»؟!. لا، ذلك مستحيل، بل المقياس - عنده - الفهم/‏الإفهام، وهذا معنى واسع متسق مع مرحلة «الما بعد» بتعدد متلقيها وعلاقتهم بالفهم والإفهام. ولننظر إلى فيلسوفٍ ما بعد حداثي معاصر، وهو علي حرب، صاحب كتاب «أوهام النخبة أو نقد المثقف»، القائل: «فليتواضع المثقفون بعد أن وصلوا إلى هذه الحالة المتضعضعة؛ فالجماهير ليست مادة لعملهم أو آلة لمشاريعهم وأفكارهم. إنهم لم يعودوا طليعة أو نُخبة، ولم يَعُد باستطاعتهم أن يتصرفوا بوصفهم متعهدي الحرية أو وكلاء الثورة أو أمناء الوحدة أو حراس الهوية». هذا الكاتب له أسلوبه المفهوم والسلس، لكن لنتأمل ماذا يقول عنه محمد شوقي الزين: «غير أنَّ وضوح الأفكار لدى علي حرب ومرونتها وسيولتها، وعنفوانها أحيانا، تتطلب قراءات، ليست شروحا أو تعليقات، وإنَّما تبيان الرهانات واقتصادات الحقيقة في مساحته التعبيريَّة»، أي أنَّ الكتابة عند علي حرب - مع أنه أسقط النخبة - لا تقاس بمفهومية الناس العاديين، ذلك المفهوم الضبابي، الذي هو أقرب للشعبوية لا الشعبية، بل إنَّ كتاباته تنطلق من عقالها إلى متلقين متعددين، لا تنظر لهم وسائل التواصل بشكلها الحسابي؛ لأنَّ الإنسانَ لا بد أن يتدخل في ضبط ما وراء الكتابة. وكأنَّ وسائل التواصل كالعلم حين يعمل بلا تدخل فلسفي، فيصنع حربين عالميتين. والحروب العالمية - هنا في سياقنا - هي حين نستسلم لأن نكون مجرد مفاعيل لوسائل التواصل. ولعلَّ الأجدر أن نكشف - من خلال وعينا - آليات السلطة الخفية، ومنها حين تُحولنا المؤسسات إلى كُتّابٍ متشابهين من خلال مفعوليتها لخطابٍ هو - هنا - وسائل التواصل.

همسة أخيرة.. يقول ميشيل فوكو: «الحقيقةَ تَنْتُج بفضل إكراهات متعددة، متمتعة بمفعولات منتظمة للسلطة».