لا أعلم السر تحديدا لكن يبدو أن بدويًا مثلي يصعب عليه تغيير عاداته البدوية رغم الغربة لعدة عقود حول العالم ولربما هي محفورة في (دي ان ايه)، لكن طبيعة البشر إذا ابتعدت عن مكان لفترة وعادت إليه فإنها إلى حد ما تملك ما يطلق عليه (العين الفاحصة) أي قد ترى الأمور بمنظار مختلف ومن زاوية مختلفة لأنك كنت خارج المعمعة، فقدرتك على النظر ربما تكون ذات بعد أكبر ومجال أوسع وأكثر موضوعية وأقل تحيزا.
لاحظت خلال زيارتي للمملكة وحديثي مع الناس والأصحاب عدة أمور وانطباعات، بعضها إيجابي وبعضها سلبي، طبعا لم أقابل كل الناس من أجل ألا يكون حديثي معمما لكن هي انطباعات أخذتها من الشريحة التي تحدثت إليها وسيكون حديثي بكل شفافية عن الإيجابي والسلبي:
أولا: لست موظفا رسميا فأزعم أن الناس تتحدث لي بكل أريحية وصراحة وأقل تحفظا، ووجدت أن هناك شبه إجماع من الناس على أن الرؤية هي الطريق الصحيح والهدف نحو مستقبل البلد، الآن صارت الناس تعرف وتدرك أهمية الرؤية، لم أشاهد مثل هذا الإجماع سابقا، أو بالأحرى بعض الناس لم تكن الصورة واضحة لديه عن الرؤية سابقاً ولم يدرك أبعادها وما ستجلبه للمملكة.
ثانيًا: لاحظت شعبية كبيرة كاسحة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بين السعوديين، وأتكلم عن جيل الشباب إلى الخمسينات (أي أكبر شرائح السعوديين)، عدة أحاديث ومواقف عفوية لاحظت حماس الناس للأمير محمد وأفكاره، وأكرر لست موظف حكومة ولا تجمعني أي علاقة مال أو عمل مع الحكومة السعودية ولست قالط (مقرب) من القيادة حتى يقول ويفعل الناس ذلك أمامي أو يتظاهرون بها، ولو لم تحدث لما كتبتها في هذا المقال فليس لي مصلحة ككاتب في نقل أمور وانطباعات لم أشعرها.
ثالثًا: السعودية أصبحت ورشة عمل كبرى، وهناك شيء جديد وعمل مستمر بكل أرجاء الرياض وأركانها.
رابعًا: لاحظت عدم رضا من العديد من الناس من بعض الإدارة الوسطى، الناس تقول الإدارة العليا تم اختيارها بدقة وعليها الأنظار وتحت المجهر دائما، وتعمل دون انقطاع وأصبح منصب صاحب المعالي تكليفا أكثر منه تشريفا وعملا دائما مستمرا، لكن بعض الإدارة الوسطى أو الوصل بين الإدارة العليا والموظفين أصبح مرتبكا ولا تعرف كيف تنقل رؤية رؤسائها للإدارة الأدنى ولأرض الواقع، هم يتحدثون كثيرا عن الرؤية لكن لا يفهمونها ويدركون مقاصدها ويطبقونها بكل احترافية.
خامسًا وسادسًا مرتبطة في بعضها، فهناك عدم رضا عن بعض التجار في المملكة، بعض التجار يتكلمون كثيرًا عن الرؤية ويأخذونها كشعار، لكنهم كأفعال هم تقليديون جدًا ولم يصلوا إلى جزء بسيط من احترافية وابتكار وإبداع الرؤية والأفكار الجديدة الخلاقة في الرؤية، وخصوصًا موضوع الأراضي والسكن، تقليديون ما زالوا يكدسون ويكنزون الأراضي والعقار وينتظرون عليها حتى ترتفع الأسعار، ولا يمدون الاقتصاد المحلي بأي دورة فعالة للمال، أو ما نطلق عليه (اقتصاد الحجر) لأنه جامد كالحجر لا يضخ الطاقة في الدورة الاقتصادية، وحتى الاستفادة منه محدودة نسبيًا فلا تخلق كثيرًا من الوظائف للسعوديين وحتى التجارة المتعلقة بالبناء والعقار ليست ذات أثر تدويري متكرر.
أما سابعًا فهو أن بعض الجهات تبدو إلى حد ما تتعارض فيما بينها من دون قصد في الأهداف، الإسكان والبنوك -مثالا- سهلوا التمويل العقاري لكن بما أن الأسعار مرتفعة جدًا فإنها أخذت نصيبًا كبيرًا من دخل الفرد وراتبه وهذا قلل من ميزانيته فيما يخص المشتريات والترفيه والسياحة والتي بدورها تبث الطاقة في الدورة الاقتصادية لأنها مال متحرك، وهي من يصنع الكثير من الوظائف، أيضًا الملاحظ انتقال بعض رجال الأعمال من الصناعة والتطوير والتجارة إلى تجارة الأراضي، وهذا يضعف الصناعة والتجارة والسياحة والترفيه والتي تخلق العدد الأكبر من الوظائف، وسألت العديد عن القيمة المضافة وتأثيرها، وكان ردهم أن الاستقطاع الأكبر من الدخل للعقار والقروض السكنية، ولو كانت القروض أكثر واقعية لما شعروا بتأثر القيمة المضافة ولكن صرفهم الشهري ومشترياتهم واستثمارهم أضعاف الحالي.
ثامنا: هناك بعض التحفظات من بعض التغيير الذي يحدث بسرعة في البلد، خصوصًا من التقليديين، ولنكن أكثر دقة ربما هي تصرفات البعض أكثر منها توجهات ومبادرات الرؤية نفسها، وهذا شيء متوقع، الإنسان بطبيعته يرفض الجديد فما بالك عندما يكون لعقود كان تحت تأثير الصحوة وغيرها، وكما كنا نكتب دائمًا الصحوة أثرت حتى في العقل والوعي الباطن للكثيرين فأصبحوا يرفضون ويتشككون من كل جديد، وحتى المقاومين للتغيير عندما تناقشت معهم وجدت أن المقاومة بسبب تصرفات فردية أكثر منها مبادرات الرؤية بذاتها، أعتقد أنهم يحتاجون بعض الوقت للاستيعاب وأيضًا بعض الاحتواء لتصحيح المفاهيم، والزمن كفيل بتغيير المفاهيم، وكمثال بسيط عندما زرت المملكة قبل سنوات وقت بدء سياقة المرأة للسيارة كان هناك بعض المقاومة والآن في هذه الزيارة رأيت تغيرًا كبيرًا وأصبحت القيادة هي الدارجة عند العوائل السعودية، وعمومًا أي مجتمع يتغير بسرعة قد تحدث فيه بعض التصرفات الفردية التي قد تكون مسيئة لكن الحزم والقانون سيظهر للناس أن هذا شيء فردي لا يمثل توجهات الرؤية.
تاسعا: لاحظت هناك رغبة من الكثيرين في النزوح للرياض، أصبحت الرياض جذابة للكثيرين، وصراحة شعوري مختلط، أعشق الرياض عشقًا وأكتب عن حبها منذ سنوات وكل ركن ربما لي فيه ذكريات، لكن هذا النزوح الكبير سيجعل الرياض فعلا أكثر ازدحامًا وقد يؤثر في الخدمات وربما يجعل الطلب على العقار أكثر من العرض، فتمنيت لو زاد الامتداد الطولي للرياض خصوصًا شمالًا حتى تستوعب الأعداد التي تسعى للقدوم للرياض، وأقول شمالًا ليس تقليلًا من بقية أحياء الرياض الغالية، لكن أغلب الجامعات والمدارس والأسواق الكبرى والترفيه أصبح شمالًا لذلك أصبحت الوجهة المفضلة.