والحق أن كبار الشعراء ظلوا ، حتى أواخر القرن السابع عشر ،أدبـاء ملتزمين أي موضوعيين وفي وسعنا أن نعدد من الأسماء ما يثبت ذلـك ابتـداء بهوميروس وصوفوكليس واسخيلوس من الأغريق فمرروا بشكسبير وجونسون وراسين وكورني وامرئ القيس وطرفة بن العبد والمتنبي وكثير من الآخرين.
أما الشعر العربي فلم يعرف الدعوة إلى الالتزام أو التملص منه إلا في فترة متأخرة.
كان النقاد العرب القدامى يقسمون الشعر إلى أبواب أو «فنون، كالغزل والحماسة والمديح والهجاء والرثاء وسواها. ولم يكونوا ليفضلون أی «فن» من هذه الفنون على سواه.
الشاعر العربي نشأ ـ أول ما نشأ ، ملتزما دون أن يدعوه احد الى ذلك.
وإذا كان الشعر الجاهلي أول ما وصلنا من الشعر العربي القديم، فقد كان الشاعر الجاهلي لسان القبيلة، تغضب فيعبر عن غضبها، وتحزن فيصور حزنها، وتتقاعس إذ يعتدى عليها فيثير الحماس في نفوس أبنائها ويدعوهم إلى الثار والدفاع عن كرامتهم.
على انه لم يكن كهفا أصم يردد ما يتناهى إليه من أصوات، وإن كانت عواطفه مشدودة إلى عواطف قبيلته كان يحكم عقله ووجدانه فيما يعرض له من أمور.
وحين جاء الإسلام فرض الدين الجديد الالتزام على شعرائه فرضا وإن لم يأمر بذلك صراحة، فقد أصبح الشاعر المسلم - والدين في أول جدته ـ يرى حرجا في التغـزل بأخته المسلمة أو في هجـو أخيه المسلم أو في التعالي بنسبه على أنساب الآخرين.
فصار لزاما عليـه أن يسخر فنه إلى الدعـوة الجديدة، يمدح الرسول ويصف حروبه ويهجو أعاديه.
لذلك أصاب الشعر في صدر الإسلام ذلك الركود الذي أصاب الأدب الروسي بعد الثورة البلشفية، حين فرضت الدولة على الأدباء مواضيع بذاتها بل ووضعت لهم مخططات أدبية وطلبت إليهم أن يبعثوا الحياة فيه، وبعثوا فيها لا حياة وإنما ما يمكن أن تبعثه الآلة في الدمية الميكانيكية من حركة.
غير أن حدة الوازع الديني ما لبث أن خفت، وأصحاب أبناء المدن رغدا من الحياة ونعيما في العيش، فانطلقوا يفسقون ويمجنون، وإذا شعراء كعمر بن أبی ربيعة وغزله المتهتك وكالأخطل وخمرياته وكجرير والفرزدق وما دار بينهما من هجاء مقذع يظهرون في المدن العربية الجديدة، وأصيب سكان البوادي بخيبة أمل شديدة وحرمان من نعم الحياة.. فإذا هم متقشفون زاهدون، وإذا شعراؤهم يعبرون عن حرمانهم من المناصب والنعم والثروات عن طريق الغزل العذري الذي ما فيه غير التوجع والتشكي وسكب الدموع.
غير أن الشعر العربي لم يعدم شعراء يؤيدون هذا الفريق السياسي أو ذاك: الأمويين أو الهاشميين، ويعبرون عن ميولهم السياسية بشعر يستحق أن يوضع في المرتبة الأولى من مراتب الشعر السياسي..
وبرغم ما قد يبدو لأول وهلة من استقلال شخصية الشاعر العربي في العصر العباسي وانصرافه إلى التعبير عن شؤونه الخاصة، لم يكن أبو نواس ولا العباسبن الأحنف ولا مسلم بن الوليد كل الشعراء العباسيين.
والحق أن هؤلاء الشعراء خرجوا عن خط الشعر العربي، أي عن موضوعيته والتزامه.
ظل الشاعر العربي في العصر العباسي يسلك ذات النهج الذي سلكه الشعراء العرب من قبله غير خاص عواطفه الذاتية إلا بالنزر اليسير، ومفتعلا التعبير عنها في أغلب الآحايين، أبو تمام والمتنبي والمعرى هم خير من يمثلون هذا الاتجاه الموضوعي للشعر العربي في العصر العباسي.
وفي عصر الانحطاط الفكري، أصبح هم الشاعر العربي أن يأتي بالجناس أو الطباق المستظرف، وأن يكتب قصائد ذات قواف مستعصية ليثبت براعته اللفظية لا أكثر.
وما لبث الشعر العربي أن شق عنه قشور البذرة التي كانت تخبئه دفينا تحت الأرض، ولاح في سمائه شعراء كالبارودي وحفني ناصف، لم يختلفوا في وجهتهم الشعرية عن الاتجاه العام للشعر العربي، كانوا شعراء «ملتزمين» إلى أقصى حدود الالتزام التي كان يمكن أن يوجد في تلك الحقبة التاريخية. واستعاد الشعر العربي على يد أحمد شوقی کامل رونقة السابق واتجاهه الموضوعي، ما كانت لتمر من مناسبة قومية أو تقام من حفلة وطنية إلا وارتفع صوت شوقی وصوت حافظ وصوت خليل مطران مجلجلا فيها.
وفي أواخر أيام شوقی ظهرت في عالم الشعر العربي حركة جديدة، لقد تأثر شعراء تلك الحركة بما قرأوه من الشعر الرومانتيكي الانكليزي والفرنسي الغرامي منه وشعر الطبيعة والشعر الذي يعبر عن خوالج نفس الشاعـر.
ولعل استفحال خطر الشعر المنبري كان من جملة العوامل التي أدت إلى ميلاد حركة الشعر الحر واشتدادها، لكن الشعر الحر لم يسلم من استغلال الشيوعية والاتجاهات الحزبية الأخرى له بل إنه سهل الطريق على كثير من المتشاعرين الذين راحوا يرصفون كلمات معينة مما يحويه قاموس الشيوعية السياسي والاقتصادي، ويلتقطون الشعارات التي يهتف بها المتظاهرون أو التي ينقشونها على شعاراتهم ثم يؤلفون من كل ذلك شيئا يسمونه شعرا نضاليا، وما هو بالشعر ولا بالنضالي، بأية حال من الأحوال.
1957*
* شاعر وكاتب عراقي " 1926 - 1964".