في أواخر الخمسينيات الميلادية، بزغ نجم الفنان طلال المداح، فكانت بداياته المعلنة وكأنه تخاوى مع الإذاعة السعودية في ذلك الحين عندما انطلقت فنيا بعد هجران طويل الأمد مع الفن، وتزاوج طال أمده مع جفاف الحياة، عندما كانت موسيقى الأخبار وإن لا جمال فيها نعدها طربا، نظرا للجوع الفني الذي كان المجتمع يعانيه، وربما تأصل عندنا في وقته أن هذا هو الفن لا غير، هذا إذا كنا في ذلك الحين نعرف أن هناك طربا وموسيقى، طبعا وما عدا تلك الموسيقى هو خط أحمر، وويلك يا اللي تعادينا يا ويلك ويل.

وكان برنامج البادية وغناء سمير الوادي يا الله طلبتك، وأغنية الخيل إن جد الجد اختراق عظيم لدفاعات لا تغنوا، وأن الطرب كارثة يجب نبذها، والويل والثبور لمن أقدم على الإعجاب بالفن، وعظائم الأمور لمن غرد بالأغاني ولو كانت من تراث الأصفهاني، أو كانت حتى كـ«يا ليلة العيد آنستينا وجددت الأمل فينا»، وبخاصة أن ليلة العيد تعد سيدة، والأدهى والأمر أن التي تغنيها أيضا سيدة، والذي يؤكد ذلك أنها أم كلثوم سواء هذا كان اسمها أو أن لها بنت اسمها كلثوم كمفهومنا في ذلك الوقت فما يفرق كله عند العرب صابون أو برسيل، «والبرسيل» هذا هو نوع من مسحوق الصابون اشتهر في ذلك الوقت وكنا نعتبره من الاختراعات العجيبة.

المهم صادف بزوغ نجم الفنان الكبير طلال مداح تلك الانفتاحة على الفن، والذات الطرب وبعض الأفلام والمسلسلات التي استمرت حتى جاء من جاء بالصحوة والتي بصرف النظر عن الغناء والفن كانت قناعا للمجاهلة المجتمعية، ولجم العقول عن طريق صم الآذان واللسان عن التفكير والقول المباح.. لا فرق كله في الممنوع، والفرق أن الناس أقلعت عن قنواتنا التي أصبحت غصب One وغصب Tow إلى القنوات الأخرى، وبخاصة بعد تقدم أدوات الميديا، وإن كانت في البدايات على قدر أهل العزم تأتي العزائم، يعني عندك قروش أو واسطة تقدر تشتري دش وتركبه بالغش يعني بالدس، وتعمل حسابك من صيادين الدشوش ببندقية السكتون، ولو دخلت بيت الذي دشدش دشك لوجدت عنده أكبر دش تم اختراعه، ولكن في الحوش جنب بيت الشعر وحول الشجر شغل ما يخرش المية، وربما عندما ترى الدش يخيل إليك أو ربما حقيقة أنه دش الجيران الذي راح في خبر كان ثم آن بعد حين أن يبان.

لقد فرض الواقع نفسه، فتيار التقدم «برودوزر» يمهد الطريق والعقيلي يردح، وما كان بالقطارة أصبح كجلمود صخر حطه السيل من علٍ.. بدأت صداقتي مع طلال منذ عام 84 هجري، فكنت مع أحد الأصدقاء نذهب كعابي إلى شقة يسكنها طلال بالقرب من مدخل ميناء جدة الإسلامي، ونمشي من مقر النجدة بباب شريف ونخترق الحواري ومنها الهنداوية حتى نصل إليه، لكي نستمع إلى العندليب وهو يتغنى بجديده، وأذكر منه أغنية من روائع ما غنى وإن لم تحظ بذلك الانتشار، وهي من كلمات الشاعر العدني عمر محفوظ غابة، يقول فيها:

لاح في البيداء مُرقم.. ربربي هندي ملثم

صابني في وسط قلبي.. إنما بدر مُتمم

قلت ما اسمك يا غزالة.. ارحمي عاشق متيم

ازورت نحوي وقالت: يا فتى عني تحشم

ونمت صداقتنا وترعرت حتى كنت أزوره في منزله في كيلو 10، وكانت شقته ومنزله يعجان بأهل الفن، وبخاصة الكتاب، ومنهم أذكر صالح جلال وحمدان صدقة ولطفي زيني وخالد زارع وأحمد صادق، ولفيف من محبي الفن والمهتمين به، وكان أبرزهم في ذلك الوقت حسن دردير، وكانت هناك توأمة فنية بين لطفي ودردير، وأذكر أنهما افتتحا أول متجر لبيع الأسطوانات الغنائية في شارع قابل واسمه عش البلبل.

ومن ذكرياتي طلب مني مجموعة من محبيه في الرياض بحكم صداقتي له أن أتكلم معه ليوافق على إنشاء استوديو له ويتقبله هدية منهم وتكلفته في حينه تبلغ نحو «مليوني ريال»، وكان وقتها أن تلقى طلال كأنك تبحث عن لبن العصفور، فهو لا يقابل أحداً، فقد كان في فترة بيات فني كبير، وذهبت إلى شقته في شارع الجامعة، وعندما علم أنه أنا سمح لي بالدخول، ووجدته رايق كما أعرفه حاضر النكتة، وكنت كلما أعرض عليه الفكرة يسألني ايش أخبارك وايش مسوي، وهكذا علمت أنه يرفض الموضوع.. ثم ترك ذلك البيات الشتوي واجتمعنا أكثر من مرة على بساط الصداقة والأخوة أكثر من الفن، وفنيا اجتمعنا في عدة أغان منها «خطوة عزيزة» و«المشكلة» و«دنيا»، ووطنيات عدة أولها كانت «حبيبتي ديرتي».

طلال كان فطنا وذكيا جدا ويلقطها وهي طائرة، إلا في البزنس ما يلقطها عنوة، مرة قلت لله يا طلال عوم نفسك، ترى الذين سيشترون كثر، قال لا أنا الآن كل شهر أجري 35 ألف ريال تكفيني، أوزعها بالتساوي بين عائلتي والذي أنا عندهم يصرفون على متطلباتي البسيطة، وربك يحب المحسنين.

وكان يحكي لي بعض المواقف الطريفة، ومنها ما هو ليس للنشر، ولكن هنا واحدة رواها لي بأسلوبه الشيق وكأنه مسلطن في موال أو مجس، قال مرة وأنا في الطايف كان عندي بيت متواضع جدا مبني من الطين والقش حتى يتماسك الطين، وأنا لسا توي طلع لي ريش فني، ومرة طرق أحدهم الباب، وخرجت وإذا وإنسان هامة وقامة، قال الأمير الشاعر عبدالله الفيصل يسلم عليك، ويقول بكره الغدا عندك.

يقول طلال في ذلك الوقت كأن أحدهم ضربني على نافوخي من الفرح والخوف، من أنا حتى عبدالله الفيصل الأمير ذو المنصب الكبير يأتي لبيتي المتواضع، ومن أنا حتى شاعر كبير يواصلني وأنا لسا مجهول الهوية فنيا، في الحقيقة لم أكن أدري هل هو راض عني أم سيعطيني دش فني.. المهم يقول حملت هما كبيرا، ماذا أقدم لهذه القامة من طعام، وإن كنت لا أعرف حجم المسافة بين مائدتي ومائدة سموه وما هو الفرق.. المهم يقول تلك الأيام كانت القدور صغيرة الحجم، فقلت للوالدة استعيري من الجيران كمان قدرين زيادة، فالعادة وجبتنا واحد إيدام وصلحه، وواحد رز والسلام، فقلت لها سوي مع البامية فاصوليا وملوخية، خلينا نبعزق.

ثاني يوم يقول دق الباب، وفتحت وإذا بسيارة فخمة يركب بها سموه وجمسين بها أخويا ومرافقين، يقول صدمت من العدد وتلخبطت مش عارف كيف استقبل الأمير وربعه، وعقلي كله في الأكل، كيف أسوي وحيكفي مين ولا مين، رحبت بهم وأنا أتنافض، ودخلت على الوالدة قلت كثري ترى المويه على الإيدام تراهم كثير، ورجعت للمجلس، وقال الأمير: سمعنا يا طلال، يقول اسمعه ايش وأنا بالي في القدور، وأتمنى أن كلام الخوي عن الغدا مجرد توقيت وليس غداء بالفعل.

ويقول وسمعني سموه بعض من شعره، ودندنا عليه ومش عارف كيف دندنت، شوي قال الأمير قلطوا الغداء، يقول وجاك الموت يا تارك الصلاة، وقمت أجري لأدخل على الوالدة، قال الأمير اجلس كمل الدندنة، والإخوان بيحضرون الغدا، قلت يا طويل العمر ترى ما في إلا أمي جوا، ضحك الأمير وقال ما عليك هي مثل أختنا، يقول أنا صرت خايف أعترض لكن أمري لله سكت، وإذ بالأخويا خرجوا إلى الجمسات، ونزلوا التباسي والقدور وهي مغطاة بالبطانيات لأجل ما تبرد وقلطوا الغدا مما لذ وطاب، فشعرت إني ولدت من جديد، انتهي كلام طلال، رحمه الله، وأنا هنا لا أؤرخ بل هي:

ذكريات داعبت فكري وظني *** لست أدري أيها أقرب مني.