ومن هذا المنطلق فإنه يجانب الصواب تمامًا ما يكرره الشانئون من أن الدولة السعودية الحديثة دولة وهابية يحتكرها فكر ديني محدد، والتاريخ خير شاهدٍ على تكذيب هذا الرأي، إذ إن مواقف الدولة في هذا الصدد لا تحصى، ولا يمكن وصف الدولة العظيمة التي أسسها الملك عبد العزيز إلا بالحرية الفكرية في المجال الشرعي والديني، وأما ما يتبناه العلماء وطلبة العلم في البلاد فهو حرية مكفولة للسعوديين بالعموم، ولا تعبر مواقفهم وآراؤهم، عن موقف ورأي الدولة بالضرورة، وهذا يبرهن عليه تتبع موقف الدولة في كثير من القضايا والأحداث الداخلية والخارجية، ويمكن الرجوع إلى ما حدث في عهد الملك عبد العزيز من المعارضات الكثيرة، على القرارات الحضارية وقتها، والأمر منسحب على بقية عهود الملوك من بعده حتى زماننا هذا، وهو أمر لا تخطئه العين.
والسياسي السعودي ينطلق في الأساس من منطلقات شرعية، تتقاطع بشكل واسع وكبير مع «نظرية المصلحة» التي طرحها الفقيه سليمان الطوفي في نهاية القرن السادس الهجري، إذ إنه صاغ نظريته الخلاَّقة التي تتيح للعقل المسلم التعاطي المرن مع الكثير من القضايا النظرية والتطبيقية في مجال المعاملات، ومجريات الحياة سياسةً واقتصادًا واجتماعًا وثقافةً، وصلب النظرية قائمٌ على تقديم المصلحة على النص في المعاملات، دون العبادات، إذ إن المصلحة دليل تشريع قائم بحد ذاته، ومستقل ما لم يُعارض بنص قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، وينطلق الطوفي -رحمه الله- في بناء نظريته هذه من ثقة عالية بالعقل البشري، وأنه مستقل بمعرفة المصالح والمفاسد، وأن الله تعالى جعل لنا طريقًا إلى معرفة مصالحنا عادة فلا نتركه لأمر مبهم يحتمل أن يكون طريقًا إلى المصلحة أو لا يكون، إذ يرى الطوفي أن النصوص الشرعية متضمنة للمصالح، وأن الشريعة جاءت برعاية مصالح العباد جملة وتفصيلًا، لكنّه افترض في الوقت ذاته أنّ هذه النّصوص قد تُعارض المصالح على نحو يتعذر معه الجمع، وعندها تُقدَّم المصلحة على النّص، إذ إن المصلحة أقوى، وأنه في غير دائرة العبادات فإن المصلحة تقدم على النص والإجماع إذا عارضتهما، والطوفي فرق بين العبادات التي لا يستقل العقل بها بدون النص، والمعاملات التي يرى أن العقل قادر على تمييز المصلحة فيها، والمصلحة دليل شرعي ومصدر تشريع فيها.
كانت مسألة إعمال نظرية المصلحة -بقصد أو من غير قصد- في الدولة والمجتمع السعودي يسير على قدمٍ وساق، حتى العام 1979، والذي بدأت فيه انتكاسة ثقافية أصابت العقل السعودي في مقتل، وتفاقم الأمر حتى بلغ ذروته مع العام 1987، إذ تغير المناخ العام في المشهد السعودي، وبدأ الاستقطاب المجتمعي الحاد المبني على العقيدة، يطغى على غيره من الخلافات المجتمعية، ولم يكن هذا موجها لأصحاب العقائد المختلفة فحسب، بل حتى بين أصحاب العقيدة الواحدة، إذ بدأنا نسمع عن «الصحويين» كفريق منفصل عن بقية المجتمع السعودي، وعن انقسامات عنيفة، وعن اتهامات بالتكفير، بل تحول هذا التطرف إلى إرهاب في 1995 و1996، واستشرس من عام 2003 وحتى 2006 تقريبًا، لقد أصبح الاستقطاب حول العقيدة في المجتمع، وبصفة خاصة الخلاف حول علاقة الدين بالدولة، والدين بالفن، والدين بالأدب، والدين بالإعلام، والدين بالفكر، وغيرها، ذريعةً للانقسامات الحادة، بعكس ما يجب أن تكون عليه العقيدة: أساسًا للتوافق والتضامن حول القيم الإنسانية، وهذا ما يدفعنا إلى القول إننا بحاجة ماسَّة اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى إصلاح ديني، ينقي التراث، وينأى بالعقيدة عن إمكانية استغلالها من قوى التطرف، لتكون رافعة لمنظومة القيم الدافعة للتحضر والتنمية.
من المهم أن نعي جيدًا أن العالم اليوم تجاوز منطقة الأديان، إلى التعامل بالمشترك الإنساني العام، والذي يكون فيه الدين شأنًا خاصًا لا علاقة لأحد به، ويعتبر عالم اليوم «الإنساني» أي فكرة تُتخذ بناء على بعد ديني قد تخالف مبدأً، أو قيمةً إنسانية هي محسوبة في خانة التطرف بلا تردد.
إن إقرار التنوع الفكري والمذهبي للبلاد السعودية بشكل مجتمعي، محفزٌ كبيرٌ للعقل السعودي وممكن ممتاز لتحرير وفتح انسدادات نظرية وتطبيقية كثيرة، تساهم في تجاوز المجتمع السعودي لكثير من العوائق أمامه، فاليوم نحن لسنا بحاجة فقط لمراعاة المذاهب والطوائف داخل المجتمع السعودي، بل يجب علينا مراعاة حتى الآراء والأفكار التي يموج بها هذا المجتمع الحيوي النشط، فلم يعد القمع والإصمات بالتكفير والتفسيق والتبديع حلًا، وهو بطبيعة الحال غير ممكن، بعد الثورة الرقمية والانفتاح الكبير لحرية القول اليوم، وهنا لا يمكن للدول من الناحية الإنسانية والثقافية تبني مذهبًا دينيًا معينًا.
وحتى نضمن إنتاج منظومة فكرية ذات نظريات وتطبيقات سليمة، تعمل بشكل فاعل في أساس بنية العقل السعودي ووجدانه، وترفع من جودته وتغيره إلى الأفضل، فلا بد من وجود مشاريع ثقافية مقنعة ذات عمق فكري ومعرفي ينطلق من خصوصية اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا، تجمع الأصالة والعراقة بالمعاصرة والحداثة، بما يجعلنا في قلب المنظومة الحضارية العالمية، وهذه المشاريع الفكرية الثقافية الحضارية، وحدها الكفيلة بحماية الفرد والمجتمع من نمو أفكار الشر وتغوَّلها داخله، وهي كفيلة في الوقت ذاته بإطلاق الإبداعات الفردية والجماعية من كوامنها.
أخيرًا، أكرر ما قلته سابقًا، من أن حديث سمو الأمير محمد بن سلمان -أيده الله- في أبريل 2021، أبرز خطوة رسمية سعودية تجاه الإصلاح الديني، وتوجيه المسار إلى الانتقال نحو منطقة ما بعد الخطاب الديني المتشدد، وصولًا إلى الخطاب المدني الإنساني، والذي سيغير الوجه الثقافي السعودي، ليس على مستوى الدولة، وإنما على مستوى المجتمع.