كلنا وقت السعة نبلاء، نتحلى بكل الصفات الحميدة، تكسُونا الحكمة وتبدو علينا علامات الوقار، سادة التقبل، تعبئنا أوشحة الاحترام، في يدنا اليمنى مسباح التفهم وباليسرى نحمل سراج الدعم، نشدو بالحس والود وتقبل وجهات النظر المختلفة، ونرحب بالحوار والنقاش مهما كان موضوعه، نُقسم أن لدينا مبادئ نُعاملها معاملة العهود والمواثيق، ونقول نحن أهل لها نحفظها كحفظ الأمانة، ولا نِزال أو تنازل عنها، نتفوه بكلماتٍ عميقة قد نرسُم بها سنوات من الأمل الوردي، ولم نكن نعلم أننا حينها عنكبوت لا يبني إلا أهون البيوت.

وقد نقطع وعوداً كانت الأيام الكاشفة أقصر من عدد أحرفها لأنها كلها وقت السعة.

وما أن يحدُث حادث حتى تنقلب الموازين ونتنكر لأنفسنا!

فلسنا نبلاء البتة بل على النقيض؛ قد ينتحبُ الاحترام رثاءً على عتبات حديثنا، وقد تتهاوى قصور الوقار فتتساوى بالأرض أو قد تنزل للحضيض كثيراً، فنكون بصدد مواجهة زلزال هو نتيجة لتصدع سطحنا بشكلٍ ملحوظ ومفاجئ يتدحرج على إثره تاج الحكمة، فلا أهلاً ولا سهلاً باختلاف وجهات النظر.

ذلك الحال أشبه بمسرح الجريمة: أغلقنا فيه كل أبواب الفهم وأحكمنا دوننا ودون الانصاف كل النوافذ، سُفِح فيه الاستماع حين اخترنا سلاح الصمم ونُحر فيه الود حين عيّنا أنفسنا قضاة، رغم أننا الجُناة بعد أن انتهكنا فيه كل الحقوق، نصّبنا أنفسنا ملوك الحق والصواب وألغينا الطرف الآخر كلياً باستبداد، قتلنا في تلك الجريمة إنسانيتنا مع سبق الإصرار والترصد، وعدا كوننا مجرمين لسنا سوى الضد من النبل، ذلك النبل الذي تظاهرنا به وقت الرخاء وقت الانصياع والسمع والطاعة وقت الانقياد.

في الواقع نحن لا نرى إلا نحن في الإطار وكل ما عدانا ركناه على رف اللاأهمية كما أننا لا نقبل بقلب الأدوار، فنحن نبلاء السعة، نتبختر على نغم احتياجاتنا لنعزف سيمفونية الأناء التي لا تحمل أي قواسم مشتركة مع العالم، نسعى لما يحقق لنا الراحة، وهيهات أن نجدها، فمعادلة الحياة تحمل أطرافا عدة مكونة من مجهول واحد أو عدة مجاهيل تجمعنا وتطرحنا، وقد تقسمنا وتضربنا بها المواقف مراراً وتكراراً لنصل لنتيجة، وحدهُ الصفر من لا يقبل تلك المعادلة ونتيجته هي الصفر أيضاً، وحدها الفاي هي الحتمية في تلك العملية لنتيقن حينها أن كل ما صنعناه وعشناه وقدمناه كان مشروطاً بوقت الرخاء، مرهوناً بخرس المتلقي لنردد "كل المواعيد وهم وهم والله وهم".