تداولت وسائل التواصل هجوما ضد أكاديمية متميزة في مجالها، ظهرت في «بودكاست» مع إعلامي مجتهد، للحوار حول «إدوارد سعيد.. خارج المكان.. داخل الزمان)، وكان كثير من الهجوم يتكئ على أنها منقبة، وقد خالفت في ذلك أمرين «صوت المرأة عورة، ومجالسة الرجال لغير ضرورة»، وكلنا يعلم مدى التدليس الذي مارسته الصحوة على عقول جيل كامل، ليعتبر مثل هذه القضايا من «ثوابت الدين»، متجاهلين أنها مسألة تخضع لأوضاع الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فنصائح الصحوة لا قيمة لها مثلا في جبال الجنوب الشاهقة، وعليكم تخيل مجموعة النساء قبل سبعين عاما يستقين الماء من العين وسط الجبل أو يحتطبن وهن بعباءة الرأس، التي تكاد تعيق المرأة عن صعود سلم الطائرة وهي تحمل طفلها الصغير أو شنطتها الصغيرة، فكيف بحملها الحطب على ظهرها وسط هذه الجبال مع رعي الأغنام والعمل في موسم الحصاد، وبيوت هؤلاء الناس صغيرة وضيقة، ولا توجد عندهم فنادق ولا مطاعم، فكيف يعيشون حياتهم مع إكرام ضيوفهم وإقامة حفلات زواجهم؟ّ!، فعن أي «ثوابت دينية» يتحدث «الصحويون وبقاياهم من المتنطعة والنطيحة»، وعن أي «صوت عورة» يتحدثون، متجاهلين قصائد «الخنساء»، ومكانة «لبنى القرطبية» في الأندلس، وموقع «الشفاء العدوية» من الحياة في المدينة بزمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وغيرهن من أمثلة كثيرة في التراث العربي.

ومثل ذلك ما أشار إليه بعض علماء المالكية من بدعية «غرف العزل» الخاصة بصلاة النساء في المساجد، وما يرد به البعض بأن المسألة «خلافية»، وعندها تتساءل:

هل «غرف العزل» لصلاة النساء بدعة أم سنة؟، فإن كانت بدعة، فيأتي السؤال الذي يليه: هل نقبل الخلاف في البدعة أم نناقشها؟.

حديثنا وفق منطق العقل الصحوي الذي ورط المسلمين في مسائل لا يبالي بها أقل المشتغلين بالفقة، لإدراكه أنها مسائل تخضع لأحوال الناس، وتتغير بتغير أحوالهم، ومنها تغطية الوجه المختلف فيها بين أقوال أشدها تغطية الوجه كاملا بلا ثقوب للعينين، وصولا إلى القول بأن العلة تكمن في ضمان عدم الأذى في قوله تعالى: «فلا يؤذين».

وقد استثمرها بعض الفقهاء فيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في السماح للنساء المسلمات بكشف رؤوسهن إن خشين الأذى العكسي الحاصل لهن بتغطية الرأس في «بلاد الكفار»، فرأى فيها البعض علة في إعادة المسألة للمعروف بين الناس، فما يمكن للمرأة لبسه في البلاد الآمنة قد لا يمكن لبسه في البلاد مضطربة الأمن مثل أفغانستان والصومال، فجعلت الصحوة بلادنا «غير آمنة للنساء» إلا مع حارس يحرسها من أقاربها حراسة تقبل المعنيين «الفضيلة والرذيلة» في وقت واحد «الحماية والمراقبة»، ويا لبؤس من اجتمعت فيه هذه النظرة لأهله (الحماية والمراقبة)..

لقد انحدر بهن دون أن يدري من رتبة «الماجدات» إلى رتبة أخرى، وانحدر بنفسه إلى ما لا يقبله عاقل على نفسه.

أعتذر من القارئ على إشغاله بقضايا قديمة تجاوزناها، لأننا عرفنا أن سؤال الأخلاق ليس سؤالا فقهيا، فالأخلاق «سلوك اجتماعي» يحكمه الضمير الإنساني، ولهذا تعامل الناس على اختلاف أديانهم وعقائدهم في التجارة مع بعضهم، وسافروا لبعضهم، للسياحة والعمل والدراسة، والضامن بينهم «الخلق الإنساني» في احترام بعضهم بعضا بالصدق والأمانة، ومقت الكذب في القول والعمل. وليت الأخلاق كانت مواصفات ملابس وهندام، لأغلقنا الإصلاحيات/السجون، فالمسألة لا تتجاوز أن نجبر الناس على ملابس محددة وهيئة شكلية واحدة، ليصبح كل الناس «طاهرين أنقياء أتقياء»، ويا لسذاجة هذه الفكرة، ويا للعمر الذي ضاع على البعض وهو يتبناها، ويربي أولاده على أساسها، ثم يسأل إذا كبروا: لماذا يهتم أولادي بادعاء الطهارة أكثر من اهتمامهم بالطهارة نفسها؟، ولهذا قال أحد العقلاء، موصيا ابنه: ليس مهما أن تأكل باليمين أو الشمال.. المهم عندي أن تأكل حلالا.

ليس مهما أن تكشف زوجتك أو تتغطى.. المهم عندي أن تحفظا سويا «شرف الزوجية»، فلا ترضى لنفسك خلقا لا ترضاه لها، وليس مهما أن تعمل ابنتك محاسبة أو مديرة تسويق في مركز تجاري، أو معلمة في مدرسة.. المهم أن تدرك معنى «المسؤولية وشرف الوظيفة».

ليس مهما أن تمارس ابنتك هواية الرسم أو الطبخ، الرماية أو الجري، أن تمارس هواية القراءة أو التطريز.. المهم أن تتيح لها مجالات التجربة الواسعة، لتصل إلى معنى الحرية السامي في «إطلاق المواهب والملكات».

وأخيرا.. تقرأ عبارة لا قيمة لها تقول: «إذا أرادت المرأة الوظيفة، فلا تفرط في حجابها».

أما العقلاء، فيقولون لبناتهم وأخواتهم الموظفات في القطاع العام أو الخاص: «لا تفرطي في الخلق القويم وشرف الوظيفة باختلاس أو رشوة أو تزوير وقلة أمانة ونحوها. أما هيئتك الخاصة، فهي مسألة تخضع لظروف عملك، وما يناسب ساعاته وطبيعته من لباس، فطبيبة الجراحة في غرفة العمليات لا علاقة لها بعباءة الرأس أو الكتف، ولا علاقة لقائدة الطائرة في الخطوط السعودية أو الإعلامية أو السفيرة بالبرقع.. إلخ»، واحذري من نصائح الصحويين «الشكلية» التي أنجبت لنا من تحتقرين صلاتك إلى صلاتهم، ولباسك إلى لباسهم، وقد قبضت عليهم هيئة الفساد، ومن أشهرهم «قاضي الجن»، وركزي على «أمانتك وإخلاصك وتفانيك في عملك»، فكل ما أتاحته الدولة لك من فرص مختلفة للعمل هو «خدمة لنفسك ووطنك».

أما أبناء الصحوة، فقد رأيناهم يصمتون في خطبهم في زمن مضى على انضمام بعض السعوديات لـ«داعش» في مناطق النزاع المسلح، ويصفوهن سرا بـ«المجاهدات»، لكنهم في المقابل يحوقلون الآن بصمت على فتح باب الخدمة الوطنية لبناتنا في القوات المسلحة بإشراف دولة عزيزة، ونظام قوي قادر.