متى يُقال عن كتابٍ ما: إنه غريب؟ هذا سؤالٌ له شقان فيما يظهر لي؛ لغوي في دلالات الألفاظ القريبة، والثاني: لغوي فيما يتخيله الذهنُ مصداقًا للوجود، فأمَّا الأول فيشرحه -مثلا- قولُ: (كتابُ غريب القرآن)، والمرادُ ما بَعُدَ عن دلالات الألفاظ في الذهن، أو قولهم: (هذا قول غريب) ومرادهم أنَّ صاحبَه أبعدَ التأويل عمّا استقرَّ عليه النموذج اللغوي لعصرٍ ما، أو لمذهبٍ ما، أو حتى أصحاب تخصصٍ ما. أما الشقُّ الثاني فإنه يتعاطى مع الغريب بصفته مفهومًا، ذلك الذي تتَّجه بوصلتُه إلى فلسفةِ الحياة بين العقلانية واللاعقلانية، أو لأقل: ما ارتبط بتشكل الوجود في الذات، وحركة التاريخ ومآلاتها، أو كشف النهاية وما وراءها. من هنا أطرحُ كتابًا لمؤلفٍ عربي عاش في القرن الثالث الهجري اسمه (ابن أبي الدنيا) وكتابه (المُتمنّين). هذا الكتاب تُلقِّيَ بطمأنينة، مع أنَّ فحوى الكتاب قَلَقٌ وجودي لأناسٍ أُعطوا -من خلال أتباعهم- أعلى مراحل الطمأنينة؛ كأنَّ الكتابَ يُحضِر لقارئه مقولةَ الفيلسوف الوجودي كيركيغارد: (الإيمان قفزة في المجهول). ولنتأمل -أولا- هذا النص في الكتاب: «...أن أبا بكر رأى طيرًا يقع على شجرةٍ، فقال: طوبى لك يا طير، ما أنعمك على هذه الشجرة، تأكل من هذه الثمرة، ثم تموت، ثم لا تكون شيئًا، ليتني مكانك». إنَّ رواة هذا النص يعلمون أنَّ أبا بكر يعلم أنه موعود بالجنة، ومع ذلك تأتي الرواية لتقول شيئًا آخر، عن قلقٍ دفين، وشكٍ مربك؛ ويُشير في الوقت نفسه إلى أنَّ وعيَ الإنسان يجعله يصنع من نفسه الغاية التي لها غاية، لهذا يتصور أنه هو الكائن الوحيد الذي سيكون شيئًا بعد الموت. وفي نصٍّ آخر لأبي بكر يقول: «يا ليتني شجرة تُعضد ثم تؤكل». من أينَ أَتَتْه هذه الأمنية؟! ونلحظ أنه لم يتوقف عند إرادة كونه شجرة فحسب، بل تُعضد ثم تؤكل، إمعانًا في القلق وإرادة العدم. ومن الملاحظ أنَّ ابنَ حنبل يروي هذا النص في كتابه (الزهد). فلعله يكون زهدًا في الوجود الكلي، والبحث عن فردانيةٍ ما، وهذا يُعيدنا مرة أخرى لكيركغارد حين بحثَ عن جَدلٍ ذاتيٍ، يُشَرِّح أعماقَ نفسه، وهنا أستحضرُ: لِم كانت الرؤية الفنية سلاحًا ضد العقلانية الحادّة؟ إذ لعلها -كما يقول برغسون- «حدس مباشر ينفذ إلى بواطن الحياة» وفي نُصوصِ كتاب المتمنّين حدسٌ مُباشر، تَصَوَّرَ في رؤيةٍ فنية، لإرادةٍ كإرادة شوبنهاور، أي أنَّ الأمنية هُنا تُعبّر عن مفهوم الإرادة كما رآه شوبنهاور حين قال: «الإرادة هي الطبيعة الباطنية لكل الوجود الظاهري، إنها الجوهر الأكثر عمقًا، واللب بالنسبة إلى كل شيء جزئي وكلي» فالأمنية -هنا- تكشف عن إرادةٍ دائمة، ومن ثمَّ محاولة لتعطيلها بإرادةِ كونه شجرة تُعضد ثم تؤكل. وتلك فلسفة الإرادة عند شوبنهاور مع نتيجته التشاؤمِية، أي أنَّ الإرادة -عنده- هي الرغبة الدائمة للإشباع، وهذه الرغبة قانون كلي يحكم العالم، فتأتي فلسفة التشاؤم لديه، من حيث إنَّ الإرادةَ هي مصدر شقاء الإنسان، إذ لا شيء يقف أمامها. ولعله من هُنا فَهِمَ ابن حنبل أنَّ قولَ أبي بكر هو قولٌ في الزهد، أي أنَّ ابنَ حنبل رأى أنَّ زهدَ أبي بكر وقفَ أمام الإرادة، وهنا نلحظ أنَّ ابنَ حنبل يقف -بقوة الإسناد- أمام الميتافيزيقا. ومِن هُنا كانت نتيجة هذه الأمنية مُتفقة مع نتيجة شوبنهاور، وهي الترفع عن الإرادة وكبح جماحها. لم يقف الكتابُ بأسانيده عند أمنيةِ أبي بكر، بل أخذَ يروي عن عمرَ، وعائشة، وعلي، والحسن، وعثمان، وابن مسعود، وأبي عبيدة، وعمران ابن حصين، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي ذر، وكعب الأحبار، ومالك بن دينار... وغيرهم. يرى شوبنهاور أنَّ العيشَ المستقر، -أو لنقل: كيفية العيش- يكون بالترفع والسمو عن إرادة العالم، ومن هنا نرى نَصًا -في الكتاب- للفُضَيْل يقول فيه: «لو أنَّ الدنيا بحذافيرها عُرضت عليَّ حلالًا، لا أُحاسب بها في الآخرة، لمكثتُ أتقذرها، كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مرَّ بها أن تُصيب ثوبَه». فالفُضَيْل -هنا- يقيس الدنيا دون وضعها في كفةِ مقارنة مع الآخرة، كما هو الخطاب السلفي في مركزيته، بل إنَّ الفضيلَ أكَّدَ المرادَ عندما قال: «لا أحاسب بها في الآخرة»؛ وذلك ليمنع أيَّ تأويلٍ زُهديٍّ، ولهذا لم أجد رواة كُتب (الزهد) التراثيين يوردون هذه الرواية. بل نجد الغزَّاليَ، يوردها في ذم الدنيا وتحديدًا في رُبع المهلكات، وذلك هو التقاطع مع شوبنهاور. أما عمر فنجد الكتابَ يورد له نصًّا يقول: «وددت أني شعرة في صدر أبي بكر». لِمَ يُورد تحديدا الشعرةَ والصدر؟! هل يصنع منها ثنائية العدم/‏الوجود؟ فسواد الشعر عدم -من حيث النمطية التصورية- والصدر وجود؛ بصفته مغذٍ للطفل. وبحكم أنَّ النصَّ يُغلِّبُ جانبَ الشعرة، فهل هو تغليب لجانب العدم؟! أمَّا عثمان فإنَّ الكتابَ يورد له نَصًا بالتخيير بين دخول الجنة وأن يصير رمادا، فاختار الرماد. فما دامَ خُيّر؛ لِمَ لَم يخترْ الجنة؟! لعلنا -هنا- أمام محاكاةٍ باطنية لكلِ ما يعتمل في النفس؛ ومن ثمَّ نحن لسنا أمام قوانين ثابتة، كما هي محاكاة الواقع. ومن هنا نتذكر الفيلسوف هيغل وهو يشير إلى نهاية الفن؛ حين كفَّ عن مهمة تجسيد الروح المطلقة. ونلحظ أخيرًا أنَّ ثمة أماني تتكرر، وكأنها تشير إلى وعيٍ ما، ينظم تلك الأماني، ومن ثمَّ هل يمكن أن تكون الأمنية كاشفة للمحاكاة الباطنية الموازية للفن ما بعد الكلاسيكي، ذلك الفن الذي لا يعترف بالقوانين الثابتة؟

في كتابي (الشمس في زجاجة. فلسفةٌ لممكن مُتأول) طرحتُ قراءةً سردية لمتن الأمنية، بصفتها بئرًا للوجود؛ من خلال شخصيات لها في مسرح التاريخ حكايا؛ رأى وعيي أنها تنقض السرديات الكبرى، كالقاسم بن سلام، والأصمعي، وهما يلتقيان مع فوكو ودريدا.