لا يغيب رفيق الحريري كي يستدعي أمر حضوره تذكّر يوم الغدر به واغتياله.. وجوده الأكيد في يوميات اللبنانيين ازداد كثافة بحكم ازدياد نسب المقارنات هذه الأيام تحديدا، بينه وبين سواه، وأيامه وأيامهم، و«ارتكاباته» وجرائمهم، وفي هذا لا ينكسر ميزان العدل مثلما انكسر ميزان العدالة الدولية المفترضة! ولا يصير الافتراء يقينا، ولا التزوير حقيقة، ولا الدسّ صنو النقاء.

أيامه الأخيرة قبل الاغتيال كانت تعجّ بالإشارات الخطيرة إلى استهدافه من قبل أعدائه، أعداء لبنان ومشروع إحيائه من كبواته، لكنه مع ذلك، رفض الأخذ بها جديًا أو تصديق فحواها الأخير.. وظلّ مقتنعا بأن «الجماعة» المهدِدة والمتوعِّدة (والقاتلة!) شرسة وخطيرة لكنها ليست مجنونة! ومؤذية لكنها تعرف حدودها، وخطيرة لكنها لا تنتحر! كان من يراه عشيات تلك الأيام يلمس بعض القلق في محياه وأقواله وشروده، لكن ذلك في جملته لم يطغَ على يقينه بخلاصاته الذاتية تلك والمستندة إلى تحليله لما يحصل معه واستبعاده بالتالي وصول الأمور إلى خواتيمها التي وصلت إليها في 14 شباط (فبراير) من العام 2005، ولذلك رفض الخروج من لبنان وبقي فيه إلى الأبد!

رفضه تصديق الإشارات الشريرة والمعلومات المتراكمة أمامه والمناشدات الواصلة إليه من ثقات محليين وخارجيين، يدلُّ على شخصيته أكثر مما يدلُّ على ميزانه السياسي.. عقله كان شغّالا على وقع طبعه هو أولا وأساسا: طبع رجل عملي مدني.


غير شرير ولا يؤمن بالعنف ولا يستسيغ الدماء المهدورة في كل حال، ولم يخطر في باله مرّة ما يَرِدْ في عدّة شغل الطغاة لتثبيت طغيانهم وفي مقدم ذلك إلغاء الآخر المختلف بإلغاء وجوده أصلا!

السياسة عنده كانت عملا حياتيا وليس افنائيا، وفعلا مدنيا وليس دمويا، وحواريا وليس إقصائيا.. بل إنه لم يكن يستسيغ الروايات المأثورة عن طغاة الزمان، ولا يهضم «مآثرهم» المنقولة والمعروفة والمتبعة في جوارنا تحديدا!

كانت طبيعته تلك، المسالمة والتسووية والمدنية و«والحياتية» أقوى من إمكانية إصابتها بالتطبع مع تلك السير الدموية والإجرامية أو التأثّر بها إلى حدّ تحكّمها بأدائه الشخصي أو السياسي.. وكانت أحكامه على المعادين والأخصام تصل في سقفها الأقصى إلى التشبّث بالحضور والدور الذاتيين، باعتبار ذلك «أفضل» ردّ على العداء والخصومة اللتين يتعرض لهما، و«أنجع» وسيلة لإقناع هؤلاء بعبث محاولاتهم لوقفه عند حدّه! أو تعطيل محركاته وإطفائها أو دفعه إلى التخلي عن «مشروعه» الكبير! ولذا كانت قياساته واضحة: الرد على محاولات الإلغاء بتأكيد الحضور، وعلى محاولات العرقلة بتكثيف الشغل، وعلى الوسخ السياسي بنظافة الأداء ومصداقيته، وعلى الحقد والحاقدين بالصبر وطول الأناة وعدم الاستسلام!

وكان في ذلك أستاذا ومعلّما وفنّانا في إيجابياته التي لا توصل في الخلاصة سوى إلى ازدياد الحقود حقدا!

دفع ثمن منطقه السليم وتحليله البارد وعقله التسووي.. وأغرب ما في هذه السيرة انه دفع حياته ثمنا أخيرا قبل ان يتم التاكّد من صوابية رأيه ودقّة حساباته: من قتله سقط معه في حفرة التفجير! ومن اغتال مشروعه اغتال سلطته وتحكّمه بلبنان قبل أن يغتال بلده ويدمره، وقبل أن يغتال «صيته» المقاوم، وقبل أن ينكشف «المشروع» على حقيقته التامة المذهبية والقومية، وأخذه المظلومية الفلسطينية ستارا للمظالم التي ألحقها بالعرب والمسلمين!

من اغتال رفيق الحريري أراد تأبيد سلطته فمحاها! وأراد ترسيخ سطوته فدمرها! وأراد التحكّم التام بلبنان ففقد ذلك التحكّم فيه وفي سوريا ذاتها! وأراد تيسير التمدد الأخطبوطي لمشروعه الإمبراطوري فكشفه وعرّاه ودقّ أجراس التوجّس منه على مداها، ومن اغتاله لإحكام سيطرته على لبنان الدور والمنصّة والنافذة وصندوق البريد استفاق على كارثة انهيار من صنع يديه أصابت ذلك اللبنان وأصابت معه بيئته ومشروعه بالإجمال، وإن كان صوته لا يزال يصدح بالانتصارات والمعجزات!

قال عنه وليد جنبلاط إن فيه سرّا.. وأي سر ٍّ !

* ينشر بالزامن مع موقع لبنان الكبير.