هناك حكاية غربية تقول: «سأل المعلم بيتر: ما ناتج طرح 4 من 4؟ فسكت بيتر، وصرخ المعلم: يا غبي!! لو وضعتُ أربع عملات في جيبك، وكان في جيبك ثقب فسقطت العملات كلها، ماذا يبقى في جيبك؟ قال بيتر: يبقى الثقب».

لم يُرد بيتر أن يقفَ عند حدود التجريد، بكل ما يَعنيه هذا التوقف من شلل، بل إنَّ قوله هذا إشارة معاكسة للمعلم؛ إذ إنه حين أراد أن يشرح المجرد؛ استخدمَ لحظةً واقعيةً مؤلمة، تَفضح ادعاءاتنا، حين نُسَيّج تصوراتنا في الحياة، ونُعطيها صيغةً نهائية لسيرورتنا ومن ثم صيرورتنا.

أي أنَّ هناك -دائما- ثقب، يُسقط المعنى الكلي في العدمية، الموازية للصفرِ الناتجِ الذي يريده المعلم، ومن ثمَّ فإنَّ الطالب -في هذه اللحظة- هو المعلم.

وهذه المبادلة بين المعلم والطالب، تصنع خطابًا يخلو من المركز، خِطابًا كله سَطح، لا يسأل عن أصلٍ -للذاتِ المتعالية- يُضفي على الوجود معنى محددًا، فيُلغي أن يكون المعلمُ مركزًا أو عمقًا، والطالبُ هامشا أو سطحا، ومِن هُنا كانَ ثقبُ الجَيب علامة على التمييز بين الغني والفقير، أي أن يكونَ الغَني مركزا أو عمقا، والفقير هامشا أو سطحا. فيأتي سؤال: هل يُستَحضر مفهومُ الثقب حين تُؤسس الرؤى؟ أي هل يُنظر لها كما 4+4=8، أم أنه يساوي 8، لكن باستحضار الثقب قد لا يجعلها 8، ومن ثمَّ تكون صيرورة تطورنا معقودة بالتحديث الحيوي، والتحول الدائم في تعدديةٍ ثقافيةٍ مُثرية، لا كينونة راسخة البنى، تمنع التفكير خارج صندوقها.

أي أنَّ المفاهيم الثابتة في لغتها تُعطي مضامين سلطوية في فرض تقاسيمها وأهدافها وغايتها، وانتقائها، واختيار أصحابها، واستبدادها في رفض ما يوازيها فضلا عمّا يُضادها، فحين تقوم وزارة، أو هيئة، أو شركة، أو مؤسسة، إلخ بوضع رؤية تحمل صرامة البنية الفكرية التي تجمع المستويات بحزمة واحدة، فإنَّ ذلك متضمنٌ إزالةَ مفهوم التحديث الذي يعني اختراق البنية الفكرية المنغلقة على الثوابتِ والقواسمِ المشتركة والسماتِ المتشابهة.

وما أكثر ثوابتنا وبحثنا عن مرآةٍ تعكس أوجهنَا الماضية والحاضرة والمستقبلة المتصورة مسبقًا في كل رؤية؛ ومن ثمَّ فإنَّ أصحابَ الرؤية هذه لم ينظروا للوقائعِ والأحداثِ والتواريخِ التي تُشَكِّل منعطفاتٍ دقيقة، أبعدَ من انغلاقهم المؤسساتي وآلية عملها. ولهذا -مثلا- أقصى ما يمكن أن يُشير فيه المثقفُ على وزارة الثقافة هو أن تتوجه بالمبادرات والصرف المالي إلى الرؤى التي تُشَكِّل جُزءا من ذاكرته المعرفية، وتاريخ قناعاته.

ولو افترضنا مُثقفا يؤمن بالحداثة إيمانا دوغمائيا فإنه سيتصوّر الرؤية تتجه نحو الحداثة، بكل مفاهيمها التاريخية، المفاهيم التقنية والعقل الأداتي، إذ إنَّ التقنية -بحسب هايدغر- هي ما يُحدد للعلم نمطَ معرفته. فنرى الثقافة العامة تلتحف بالطابع التقني، ومن ثم فتكون الغاية هي السيطرة على الطبيعة وإنسانها، وينتج عن هذا أنَّ أشكالَ المعرفة المغايرة لهذا اللِحاف هي أشكالٌ دُنيا، هامشية.

والإشكال الآخر أنَّ هذا المثقف حين لا تأخذ الوزارة بنصيحته، فإنّه يتحسر على زمنٍ لم يُقدره حقَّ قدره؛ إذ لم يُدرك أنَّ الوزارة هي وزارة ثقافة لا مثقفين، إذ لا معنى لوزارة مثقف إلا من خلال العقل الأداتي حين يشترك فيه الشخص المعنوي/ الوزارة هنا، والشخص الحقيقي/ مثقفة أو مثقف.

ومن هنا فإنَّ رؤى وزارة الثقافة -مثلا- لا تستحضر الثقب، الذي يُمكن أن يجعلها تُفكر خارج صندوق العقل البنيوي، ومن ثمَّ حين تتعاطى الوزارة مع الفلسفة -مثلا- فإنها تُقصيها -وهذا مفهوم ضِمن البنية المركزية كما أشرتُ في الأعلى-، مع أنه في الظاهر لا تقصيها، والمراد بما أنَّ الفلسفة في جذرها المتحرر معرفة متجاوزة للعقل الوضعي التقني، فإنها قُيدت، ووضع لها إطارا ضمن الأهداف المؤسساتية للوزارة بشكلٍ صارم.

وليُنظر إلى نشاطِ جمعية الفلسفة وكيف تسير ضمن خُطط مَدرسيّة، تؤطرها البنية المركزية المغلقة، فمواد لائحتها وضعت بعقلٍ قانوني صارم في إطارها العام، ومدرسي في إطارها التنفيذي، فبنية الألفاظ المعجمية التي تقوم عليها أهدافُ الجمعية هي:

(التشجيع، التأهيل، الاحتواء، الإبراز، التمكين، الدعم)، وتلك يجمعها معجمٌ وزاري بأهدافٍ تدريبية، وقيودٍ اشتراطية، لضبطِ الفلسفة والمتفلسفين.

والاشتراطات تُفهم من خلال المراقبة، كأن يوضع -مثلا- في المادة السابعة عشرة شرط تحديد مقر إقامة العضو، إلا أننا نلحظ أنَّ الشرطَ العاشر من قبول عضوية العامل يضيف على المراقبةِ المعاقبةَ، والشرط هو (ألّا يكون صدرَ في حقه حكمٌ نهائي في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة، ولم يُرد له اعتباره) إذ لا يُناسب هذا الشرط الفكر حين يتجلى إلا من خلال قانون العقوبات، لهذا لا غرابة أن يكون الشرطُ التاسع لأعضاء مجلس الإدارة هو عدم اعتراض الوزارة على ترشحه، فهذا السبب معقود باشتراطاتِ ما وراء التشريع.

ومثله الإجراء الخامس في المادة الثانية والثلاثين، وهو اعتماد القائمة المرشحة -من قبل الوزارة- بأنه قرار نهائي غير قابل للطعن، إذ إنَّ اشتراطات ما وراء التشريع حَلُّ للقضاء على ما ينقض البنية المركزية الثابتة، أو الأفكار التي لا حل لها واضح ضمن الأهداف المرسومة، وحين يُتاح للمجلس -في المادة الثالثة والستين- أن يطلب تعديلا على اللائحة، فإن شرط ما وراء التشريع له بالمرصاد، ويظهر هذا في الإجراء السادس،وهو أنَّ التعديل لا يدخل حيزَ النفاذ إلا بعد صدور موافقة الوزارة.

ومن المآزق المؤسساتية أن يكون تصنيف الجمعية -كما جاء في المادة الأولى- ضمن ثلاثة أمور: الثقافة والترفيه، الثقافة والفنون، منظمات الأدب.

ليس اعتراضا أقولها، بل إشارة إلى مأزق الثقب إن صح لي التعبير.

وحتى حين تمارس الجمعية تأملها خارج الممارسة الأداتية، فإنها تُحيط ميتافيزيقاها بما يَخدم الأهداف الوزارية في أغلب الفعاليات، وما لا يتعارض مع الأهداف في أقلها، وهذا الأخير مضبوط ضمن الأهداف من حيث التشجيع العام والتأهيل، وتكون -حينها- الفعالية تحت رقابة المادة الثامنة والثلاثين، فضلا عن الرقابة الذاتية.