لما تتبّعَ أصوليو الإسلام النصوصَ، وجدوا أنها تستحضر الفجوةَ بين التحريم القطعي الدائم، والواقع المتغير، فاستخرجوا قواعدَ ليست نصًا من الكتاب والسنة، ومن أبرزها قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، إلا أنَّ التلقي لهذه القاعدة، قيّدها بمقيدات نَصّية تتوازى مع حالة الفرد في اندماجه مع مفهومِ الدولة التوسّعية؛ إذ النموذج القديم له مفاهيمه المغايرة للدولة الحديثة، فقالوا إنَّ هذه القاعدة مقيدة بمثلِ آية: (فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه)، وقد كانت في سياق تحريم لحم الخنزير. والبغي والعدوان -هنا- انحصرا في مفاهيم فردية متسقة مع النموذج التوسعي القديم، ومن ثم تُلقِّي بما يوازيه، أما حين زال مفهوم الدولة الإسلامية التوسعية، فإنَّ إخراجَ هذه القاعدة من قيودها السابقة أصبحت ضرورة براغماتية، أي بإلباسها قيودًا عملية تتسق مع مشكلات الحقوق الإنسانية العابرة للحدود الضيقة، ومن ثم يحدث انفتاحٌ لم يخالف قواعدَ النصِّ الماضي، إلا بإخراجه من ضيق الزمن المعين، ومن النظرة إلى الحقيقة كموضوعٍ مستقل عن صيرورتنا العملية، فتكون التعددية وحماية الحريات الفردية -من أن يغتصبها مغتصبٌ- أُسسًا فكرية حتى لمن يستخدم هذه القاعدة بإطلاقها من سياقها القديم.

إنَّ الأصوليين لما نظروا إلى هذه القاعدة، وضعوا معها قاعدةً عملية توضحها، وهي (الضرورة تقدر بقدرها)، والتقدير هنا مُحال إلى ضمير الفرد -الداخل ضمن دولة توسعية تخدمه كي يحقق غايته الأخروية- الذي لو اضطر إلى أكل لحم الخنزير كي لا يهلك، فإنَّه لا يأكله حتى الشبع، بل يأكل بقدر ما يبقيه حيًّا.

أما الآن فنجد مفهوم التقدير يتحول إلى ضمير الدولة نفسها -بصفتها ظاهرة من ظواهر المجتمع الحديث- فتكون الدولة -هنا- متجزئة في أفرادها، لا كالعقل الديني بصفته محركا أوليا للضمير، ولا كالعقل الكلي عند هيجل، ولا كأدوات الإنتاج عند ماركس، وكل ما انجر وراءها من أيديولوجيات جعلت الوعي بالتاريخ يسير بأنماط حتمية مختلفة، ومن ثم إبقاء للمحظورات الفردية التي يُسوّغ بقاءها إما حقوق المحرك الأول -المنتج للتصورات الدينية المتعددة، ومن ثم أتى بكل الأيديولوجيات اليمينية على اختلافها -أو حتمية حركة التاريخ بجميع صورها، سواء كانت عقلا كليا، لم يكن الأفراد فيه إلا وسائل، أو أدوات إنتاج تحرك التاريخَ من خلال صراع طبقي، أنتجتا كل الأيديولوجيات اليسارية على اختلاف مشاربها. أو إرادة الحياة الناظمة لتقدميةِ التاريخ نحو الإنسان الأقوى، التي أنتجت استبداديين بأشكال متعددة -بما فيها بعض القوميات- تنضمّ تحت أغطية دول مختلفة.

إنَّ صرخة كيركيغارد- التي تمثّلَ من خلالها جدل الرغبات الفردية، تلك الرغبات الصراعية التي لا تتوقف كتوقف صراع هيجل بالروح المطلقة، ولا صراع ماركس بالشيوعية المتقدمة- كانت صرخة تؤسس لأرضيةٍ قلقة، اتصلت بتساؤلات لاحقة لفوكو حين قال: «هل بإمكان الفلسفة أن توجد ولا تكون هيجيلية، وهل ما هو مضاد للفلسفة هو بالضرورة غير هيجلي» ومن ثم كان فوكو خائفًا من مصيدة هيجل في كل دراساته الفلسفية.

إلا أنَّ بإمكاننا أن نستخدمَ صرخة كيركيغارد لاستحضارِ شيءٍ مهمٍ وهو أنَّ فلسفة هيجل اعتُبرت زائفة من جهة المادية الجدلية عند ماركس، واعتبرت ضرورية من جهة الاضطراب الفوكوي، هذا التضاد في الرؤية، قد يُسوغ لنا الجمع بين كلمتي (دولة/فرد) بمصطلحٍ واحد هو: (الدولة الفردية) ويكون ضميرها هو المقدر للضرورة التي تبيح المحظورات، دون أن يتسلط جزء على جزء بشكل كلي.

فما دام أنَّ قطعية الزيف هي قطعية مضادة قلبت الفلسفة من السماء إلى الأرض كما رآها ماركس، واضطراب إمكانية الفلسفة خارج هيجل، هي المنتجة لتفتت الفلسفة إلى حقول متعددة، دون ثبات كلي؛ فإنَّ مصالح الفرد المتضادة ستكون مستحضرة في ضمير الدولة الفردية، ويكون معنى ضمير الدولة هو مصلحتها الخارجية التي لا تتناقض مع المصلحة العملية لحقوق أفرادها المتعددة والمتغيرة في المنظار التحديثي الدائم. نعود إلى الأصوليين؛ وننظر إلى خطوة ثالثة للقاعدة، وهي التفريق بين الضروريات والحاجيات والتحسينات، فأما الحاجيات فكالرُخصِ، وأما التحسينات فكالكماليات، وأما الضروريات فهي التي لابد منها في قيام مصالح الدين بصفته دولة، وأعني بصفته دولة، هو أن يكون مفهومُ الضروريات الخمس -الدين والنفس والنسل والعقل والمال- معقودًا بفسادِ وصلاح الدولة بصفتها ممثلة للدين وتطبيقاته الواقعية.

ومن ثمَّ فإنَّ هذه الضروريات يختلف النظر إليها بحسبِ النظر لمفهوم الدولةِ من جهة، ومفهوم الحقوق من جهة أخرى.

أي أنَّ المجادلين عن ضرورةِ العودة إلى الشرطِ التاريخي لتطبيقِ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، هم متمسكون بمفهوم الدولة الدينية، حتى وإن ظهروا بأنماط عصرية، إذ هم يعدون الفرد وسيلة للدولة الدينية التي يتحرك التاريخ بها، دون إلغاء فرديته التي سيحاكم بسببها في الآخرة. ومن هنا فالضروريات تقدرها الدولة الدينية، ومن ثم فهي من يحافظ عليها بتحديدِ طرائق العيش للأفراد، ولا يكون اختراق المحظورات إلا بقدرٍ ضئيلٍ يحدده ضمير الفرد، والضمير هنا يُعَول عليه فيما لا يظهر على سطح المجتمع.

لهذا كان من الضرورة، إلغاء هذا المفهوم، مع إبقاء الجذوة المعقود بها، ومنها قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، لكن على سبيل تحرير مضامينها من الشرط التاريخي الماضي.

فلو رأت دولةٌ ما، أنَّ تشريع الخمر -مثلا- سيجعل من اقتصادها أصلح منه كما لو كان في أروقة السوق السوداء، فإن هذه القاعدة تجعل صاحبَ القرار -شرعا- قادرا على السماح به. والملحوظ في مفهوم الضروريات الخمس أنه يجعل الدينَ قَسيْمًا للضروريات الأربع، أي أنه اعتراف بالمشكلة الواقعية التي تجعلنا كائنات تاريخانية، ومن ثم كان الأصوليون يقولون إنَّ الدينَ مُقدمٌ على الضروريات الأخرى، وذلك ليضبط حركة التاريخ بالعقلية الزمنية القديمة.

ومن هنا فإنَّ الانعتاق من عقال أي نظرة ثابتة لهذه الضروريات، هو ضرورة بحد ذاته.