التيارات الثقافية العربية بشقيهـا «القـومي» و«التقدمي» تـزودت بـزاد إنشائي قوامه الشعارات، والكليات السحرية والمقولات الجاهزة، فأوقفت بذلك حركة تنـويـريـة في الثقافة العربية، كانت تعمل بهـدوء وبطء في ثلاثينات هذا القرن وأربعيناته، ولم يحل محل هذه الحركة،

إلا الهراء اللغوي القائم على الشعارات والتصنيفات (الأمنية) والسطحية. إن المشروع التنويري الذي قام به طه حسين، وأحمد أمين، وعبدالحميد العيادي، وسلامة موسى، وسواهم، كان فرصتنا لفهم تراثنا على أنه تاريخ لا على أنه «تميمة» مقدسة، مجردة، غامضة، يجب أن نحملها لكي نطرد الأرواح الشريرة، ونضمن تقدمنا المنشود، إلا أن هذه الحركة لم تتفتح ولم تأخذ أبعادها، لأن البورجوازية الصغيرة حين بدأت تتهيأ لتسلم السلطة، أوثقتها وأحلت محل التحليل الشعار أو المقولة الجاهزة.

ومن جهة أخرى، كان هذا المشروع ينتظر المثقفين العرب التقدميين لكي يمضـوا بـه ويعمقـوه ويصلوا به إلى حد المشروع التنـويـري المتسق والفعال.

ولكن بدلاً من ذلك جرى نوع من القفز فوق هذا المشروع، لحساب الراهن. ولحساب إنتاج ثقافة «تكتيكية، ومرتبطة بعملية الصراع من أجل السلطة».

ومؤخرًا حين وجه المثقفون التقدميون بمسائل التراث والدين، والتاريخ العربي / الإسلامي، فإنهم لم يعودوا إلى وصـل مـا انقطع وإتمام ذلـك المشروع الذي بدأ، وإنما انضموا إلى جوقة التلفيق والتجزيء والانتقاء التي سادت في العشرين سنة الأخيرة. فهذا يبحث عن فلاسفـة مـاديين «ماركسيين» في التراث، وذلك ينبش أخبار ثورات قامت في سياق التاريخ العربي، وذلك يأتي بنماذج اشتراكية قيل إن فيها ما يكفينا حاجة الإطلاع على فلسفات غربية، أو «اشتراكيات مستوردة».

إن واحدًا منهم لم يـواجه التراث على أنه صيرورة تاريخية، وأن مسؤوليتنـا لا تكمن في تمجيده أو في إحياء بعض جوانبه، أو في رفضه، وإنما في كتـابـة الصيرورة ووعيهـا، وتعميق دلالاتها التاريخية. هل تعرف أنه لا يوجد كتاب تاريخ يتسم بالمنهجية والعقلانية يقدم لنا ماضينا؟

إننا في الأعم الغالب نعتمد على المدونات التاريخية القديمة. هذه المدونات الباردة الوصفية التي ترفض ربط الأحداث ربطًا متسلسلاً، والتي تموه الحقيقة، لأن معظمها إنما دون لغير الحقيقة. إن عبدالله العـروي محق حين يشير: إن المثقفين العرب ينقصهم الفكـر التـاريخي،وعلاقتنا بالتاريخ ما زالت تفتقد إلى فكر تاريخي، وبالتالي، التعامل معها كصيرورة لها أسباب ونتائج، أي كصيرورة اجتماعية سياسية ثقافية، معقدة ومتنامية.

وما أعنيه هنا يختلف جـدًا عن الدعوات التي ظهرت مطالبة بإعـادة كتابة التاريخ كتابة استعلائية، أي لتكريس مقولات ايـديـولـوجية معينة، قومية أو دينية. ما أعنيه هو أن يكتب التاريخ بصـورة علمية متحررة من وطأة الماضي، والتحرجات التي تسببها انشقاقات دينية. بعبارة مختصرة: أليست لدينـا فـرصـة لمعرفة تاريخنـا بصـورة علمية، وعلانيـة. أعتقد أن هناك فـرصـة لذلك حين نتحلى بالجذرية التي تحدثت عنها آنفًا.

إننا بحاجة ماسة لمثل هذا التاريخ. وأنا هنا أيضًا أتفق مع العروي بأن الذين يتعاملون مع هذا التاريخ، على أساس انتقائي، أي انتخاب ما يدعم وجهة نظرهم الحالية. وإهمال الجانب الآخر، إنما يسوغون في الحقيقة الفكر السلفي ويمدونه بالقوة. وهو في كل الأحوال، يبدو ولو ظاهريًا، ذا منطق متماسـك أكثر من منطقهم، لأنه يـدعي استعادة مجمل التراث.

خذ مثلا: حين اختار من بين الفلاسفة العـرب فيلسوفًا، وليكن ابن سينا، أنتقيه نموذجًا لتدعيم الفكر المادي التقدمي، فإني أكون قد سوغت مسألة العودة إلى التراث كـأسلوب كامـل متكامـل، يغنينا عن الانفتاح على فلاسفـة عصرنا، ولأن السلفي سيقول لي نعم، العودة ! ب

الفعل علينا الاكتفاء، بما حفـل بـه تـراثنا وتـاريخنا من تيارات فكرية ومفكرين، ولكن، لكي نكون أكثر أمانة وشمولا، يجب أن نحيي ابن سينا والغزالي وابن تيمية أيضًا.!

ولا شك أن السلفي، يبدو أكثر تماسكًا في قوله من التقدمي الانتقائي. باختصار يجب الإقرار أولا، وقبل كل شيء، بأن مستقبلنا لا يكمن في ماضينا.

يجب الإقرار أيضًا بأن التراث الفكري الإنساني يخصنـا كما يخص سـوانا، وأننا نستطيع وعلينا الإفادة من هذا الفكـر في صيـاغـة واقعنـا وتاريخنا. فالدعاوى التي تردنا دائمًا إلى الماضي، إنما تريد في جـوهـرهـا، أن تعـزلنا عن منجزات الفكر الإنساني، وبالتالي أن تمنعنا من التقدم. وإن القول إن كل ما نحتاجه إنما هو موجود فيها سلفًا هو قـول لا يفضي بنا إلا إلى نوع من السكـونيـة التاريخية التي تنتج وتعيـد إنتـاج تخلفنا.

إن في ماضينا أحـداثًا تاريخية واتجاهات فكرية ذات سيـاق تـاريخي، ويجب أن ندرسها في هذا المنظور، لا أن نحاول أن نكتشف فيها صيغًا جاهزة للعمل وللتغيير.

إن «ثورة الزنج» مثلا هي سياق تاريخي، من المهم، أن أطلع عليه وأن أتملى مغازيه ونتائجه. لكن ثورة الزنج لا يمكن أن تكون وصفة أو منهجًا معاصرًا.. بهذا المعنى، نحتاج إلى أفق فكري جديد، في النظر إلى الماضي. أفق فكري، غير غيبي، وغير مثالي، وغير براغـماتي، وأعتقد أن هذه ضمانات أولية، ولا بد منها، لكتابة تاريخنا لا لإعادة كتابته.

1986*

* كاتب ومسرحي سوري «1941 - 1997»