يقول نيتشة إن لغـة الموسيقى ليست عالمية، ولا هي منعزلة عن العصر والظروف المحيطة، بل هي لغـة تستمد قوانينهـا الداخلية من ثقافة منطقتهـا ومن عصرها، وليس أدل على صـدق هذا الـرأى من قضية تطور الموسيقى في الجمهوريات غير السلافية في الاتحاد السوفيتي، فقـد أشرنا من قبـل إلى مدى تعدد الجنسيات التي تقطن جمهـورياته (في قارتي أوربا وآسيا)، وهي الجنسيات التي يمكن تلخيصها (بشیء من التوسع) إلى الروسية والسلافية والقوقازية والآسيوية الشرقية.

ولقد كان من أبرز الأهـداف الثقافية لروسيا السوفيتية، السعي لاندماج كـل هذه الجنسيات المتباينة في كيان «قومي» متماسك يحتضن كل هذه الثقافات وأن تقيم «الاتحاد» على أساس احترام الهوية الثقافية لهذه الجنسيات، وأن تفتح أمامها آفاق التعبير الذاتي المنبثق من التراث المميز لكل منها.

وإذا كان جميع المواطنين أيا كانت جنسياتهم يتعلمون اللغة الروسية في المدارس، فإن الدولة -في مجال الفنون- تشجع الحفاظ على الهوية الثقافية لكل جنسية وتبذل جهودا ضخمة لتنشيط التعبير القومي على أسـاس التراث المحلي، ولـذلك وفـــرت كل وسائل التعليم والأداء الموسيقي للجمهوريات المختلفة، وتولت دفع دراسات الفولكلور ليكون نبعا ينهل منه، المؤلفون في أعمال كبيرة كالسيمفونيات، والأوبرات، وفتحت أمام المؤلفين القوميين.

(1) تتمتع أغلب الجمهوريات بتعليم موسيقي جيد ولديها أوركسترات وفـرق باليه وأغلبها لـديه فرق للأوبرا تكاد تكون صورا مصغرة من العواصم.

(2) يرجع الاهتمام بالفولكلور الموسيقي للقرن التاسع عشر، وإن كانت مجموعات الأغاني التي نشرها بالاكيريف وتشايكوفسكي ورمسكي كورساكوف في أغلبها معـدلة بإضافات هارمونية.

ثم اتخذ الاهتمام بالموسيقى الشعبية وجهة علمية في العقد الأخير من القرن الماضي فأوفدت رحلات ميدانية للجمع، ونادي الباحثون (مثل بالشيكوف) بالحفاظ على الطابع الأصيل، بعيدا عن أي تعديل، وخاصة في الأغاني الشعبيـة البوليفـوينة، واستمرت العناية ببحوث الموسيقى الشعبية في الاتحاد السوفيتي، ويتولاها الآن متخصصون أكاديميون.. من هذه الجمهوريات ـ التي دخلت مجال الموسيقى الفنية لأول مـرة ـ فتحت أمامهم الآفاق لتقديم أعمالهم محليا ودوليا.

غير أن نجاح هذه «السياسة» مرتبط إلى حد كبير بطبيعة العناصر المميزة للتراث الموسيقي لكل شعب، فالتراث الموسيقي الشعبي (والكنسي) لجمهـوريـات مثل أوكرانيا أو روسيا البيضاء (بيلاروسيا) أو جـورجيا أو أرمنيا، ليس في خصائصه النغمية والإيقاعية مـا يستعصى على التناول بالأساليب الهارمونية أو الكنترابنطية والغنائية الغربية، كما أن بعض سماته المميزة كانت قد دخلت فعلا إلى مجال الموسيقى الفنية في أعمال سيمفونية وأوبـرات منذ القرن السابق (هـذا وباستثناء البوليفـونية الشعبية لموسيقى جـورجيـا، بطابعهـا العتيق الـذي يبتعـد كثيرا عن البـوليـفـونيـة الأوربية)، ولذلك وجدت حركة الإبداع الموسيقي في تلك الجمهـوريات طـريقا معبدا إلى حد كبير ولم تصطدم بعقبات تقنية كبيرة.

أمـا جمهـوريـات وسط آسيا، بتراثهـا الشرقي، مثل أوزبكستان ورتـركمينيـا وكازاخستـان، وطاجكستـان، وكيرجيزيا، وحتى أذربيجان القوقازية، فقد تميز تراثهـا بعناصر خـاصة تأبى التطـويع للأساليب الغربية الأكاديميـة (التي تدرس بمعاهـد الكونسرفتوار) فهو غالبا تراث مفـرد اللحن (لا يعرف تعـدد التصويت) ولبعض مقاماته أبعاد خاصة تختلف عن السلم الغربي «المعدل» (وهي أقرب لأبعاد الموسيقى العربية والإيقاعات فيه أحادية (عرجاء) وأسلوب الأداء الغنائي ـ غالبا يميل للارتجال، ولآلاته الموسيقية المحليـة رنين خاص مميـز ولذلك كانت مهمـة «التطـويـر الموسيقي» لهذا التراث أصعب بكثير منها في الجمهوريات المشار إليها قبلا.

الطريف أن نورد هنا رأى اثنين من النقاد السوفييت في طبيعة مشاكل تطوير التراث الأوزبكستاني (وهـو رأي ينسحب على الجمهوريات «الوسط آسيوية» وكثير من جمهوريات الأطراف Peripheral الآسيوية).

إذ كتب إيفـان مارتينوف بصدد الموسيقى التصويرية التي كتبها أوسبنسكي لمسرحية فرحات وشيرين ولموسيقى جليير Gliere لمسرحية «جولسارا» على ألحان أوزبكستانية: «إن استنباط الهارمونيات الملائمة للألحان الأوزبكستانية الشعبية أمر عسير، إذ إن سلالمها المقامية عـدة أوجه عن السلالم الغربية، ولذلك فلا بد من استكشاف الإمكانات الكامنة في هـذه المونودية المحلية، وهو ما لم يوفق فيه المؤلفـان في هاتين المدونتين، وإن نجحا في مواضع متفرقة، فموسيقى «جولسارا» مثـلا تحتوى على فقرات بوليفـونـيـة كـورالية جيدة، ويمكن القول إجمالا إن الأساليب «البدائيـة الأثنوجرافيـة» لهذه الموسيقى ليست كافية في حد ذاتها للتطوير، وينبغي إثراؤهـا بخبرات التأليف العالمي الأوبـرالي ليمكـن تـوليـد أسـاليب جـديـدة على أساسهـا وتطويرها.

وعن نفس القضية كتب ناقد آخر إن الصيغة الأوربية المستخدمة في موسيقى «فرحات وشيرين» و«وجـولسارا» ليست ملائمة تماما للطابع الأصلي لهذه الألحان الأوزبكستانية، ولذلك تـوارى الطابع المحلي أحيـانـا في النسيج الموسيقي بشكل يخل بالتوازن، ويشير إلى أن أقرب مؤلفي أوزبكستـان لحل هذه المشكلة هو مختار أشرفي في أوبراه «بوران».

وقـد يتساءل القـارئ وما هو دور مؤلف روسي مثل جليير في مـوسيقى أوزبكستان القومية؟ والإجـابة أن السلطات السوفيتية شعرت بأهميـة تقديم نماذج عملية للتطوير في الجمهوريات الآسيوية الناشئة موسيقيًا، فأوفدت بعض كبار المؤلفين إليهـا ليعيشوا فيهـا فترة تتيح لهم التعرف على تراثها الشرقي والكتابة على أساسه، فأوفدت إلى عدد من تلك الجمهوريات ذات التراث الشرقي مؤلفين مثل ایبولیتوف ايفانوف، وخاتشا توریان وحاد جيبيكـوف وجليير وبالاسانيان، وذلك أثناء مرحلة الانتقال وقبل أن يشتد عـود مؤلفيها المحليين ويتهيأوا لقيادة الموسيقى في بلادهم. ولكي نتوصل لتقييم أثـر هـذه السياسة الموسيقية في تشجيع التعبير الموسيقي القومي فيكفي أن نستعرض هنا بعض الأسماء الشهيرة للمؤلفين «القوميين» الذين أنجبتهم جمهوريات القوقاز الثلاثة، وأوزبكستان في ظل النظام السوفيتي من أمثال: آرام خـاتشاتوريان، وآروتونيان وميرزويان (المولود عام 1921) وسيرجي بالاسانيان (1902) وغيرهم من أرمينيا، وحـادجييكوف وكـاراكاراييف وفكـرت آميروف من آذربيجـان، وتاكتـا شفيلي وسنسـادزه، وبالانشيقـادزة، وغيرهم من جورجيا، ومختار أشرفي من أوزبكستان إلخ..

وهناك أسماء يصعب حصرها من المؤلفين القوميين الجدد، ممن ترددت موسيقى قومياتهم لأول مرة في المجال الفني.

1990*

* مؤرخة موسيقية مصرية «1925 - 2006».