تعالت مع مطالع التسعينات من القرن الماضي، خطابات تشير إلى انعكاسات (العولمة) المقبلة، وما ستفرزه من تداعيات قد تخلخل منظومة المبادئ والقيم الإنسانية العليا، وذهبت عدة دراسات إلى التحذير مما سمته حينها بروز (الهويات الضيقة)، وشيوع عدد من الخطابات والمتغيرات العميقة في معظم المجتمعات البشرية، لافتة إلى ما قد يصيب البنية المجتمعية، ويظهر مخبوءات إقصائية وعنصرية، تسهم في تأجيج الصراع العرقي والطائفي والطبقي.. إلخ من القضايا السوسيولوجية، التي كانت منذ ذلك الوقت نصب اهتمام مراكز البحوث العلمية في جامعات الغرب، بل نشأت أقسام خاصة تحت مسميات (علم اجتماع الواقع الافتراضي) وما شابه ذلك.

فيما ظلت مجتمعاتنا العربية فقط تتفرج، مكتفية بمقالات إنشائية عابرة، وندوة هنا، أو محاضرة هناك، ومعظمها منطلقاته اجتهادات وجهود فردية.

خطابات الكراهية والتنمر

مجتمعاتنا العربية، اليوم، تحتاج إلى جيش كبير من المفكرين والباحثين، لمناقشة وبحث الأثر الذي خلفته شبكة الإنترنت والهواتف الذكية في وعينا وأنماط تفكيرنا على مدى عقدين، إذ أضيفت إلى أزمات الحريات والتطرف والاقتصاد، كثير من تلك القضايا الناجمة عنها، وما خلفته من تأثير في الأوضاع الاجتماعية.

أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، والخبير في علم اجتماع الإنترنت والتواصل الرقمي الدكتور نديم منصوري، يقارب في كتابه «العصبية في المجتمع الرقمي»، هذه المعضلة الحضارية، وما عرف شعبيا وإعلاميا بـ "ظاهرة التنمر"، طارحا تسلل العصبية التقليدية إلى المحتوى الإلكتروني بكل وسائطه، ليتقدم مفهوم العصبية شاشة الوقت الرقمي العربي، معززا خطابات الكراهية والقدح والذم والتشهير، بلغة استعلائية تتبادلها معظم الجماعات والمجتمعات، وكله من أجل تفعيل الانتصار لجماعة اجتماعية بعينها على جماعة، أو جماعات أخرى.

الذهن الحديث والذهن التقليدي

سعى منصوري في رؤيته البحثية للتحول الرقمي ومساراته عربيًا إلى تفسير العلاقة ما بين المفهوم التقليدي والموروث (العصبية)، وما بين المفهوم الحديث والمعاصر (المجتمع الرقمي)، طامحا عبر قراءة سوسيولوجية في العبور إلى مسافات التلاقي ما بين المفهومين، مستندا في مقاربته إلى محاولة إعادة قراءة مفهوم العصبية من خلال شاشات المنصات الرقمية، للقبض على سبب تسرب مفاهيم (الذهن التقليدي) إلى أفراد المجتمع الرقمي الذين يفترض أنهم يمتلكون -كما يشير الكتاب- نسق خطاب «الذهن الحديث».

ويتساءل منصوري في كتابه عن: لماذا يستخدم الأفراد الوسائط الرقمية لتفريغ مشاعر العصبية، بدلاً من أن تكون منبرًا للتلاقي والانفتاح والحوار؟ كيف يتنوع خطاب العصبيات في المجتمع الرقمي؟ إلى أي مدى تستطيع العصبية تعطيل مبادئ الهوية الرقمية الاجتماعية؟.

النعير الرقمي

لكي نتمكن من فهم هذه «الممارسات الرقمية» يرى منصوري أنه لا بد من تحليل خطابها على مستويات عدة؛ إذ لا يمكن أن نكتفي، في تحديد الخصائص الشكلية للنتاجات السيميوطيقية أو في الدلالة على طرق الأفراد في استخدام اللغة والأنظمة الرقمية لإنجاز أفعال اجتماعية محددة، أو في الاطلاع على نظم المعرفة العامة التي تنظم ما يقوله الأفراد ويكتبونه أو يفكرون فيه، بل علينا رصد جميع طرق الأفراد في إدارة وإنشاء حياتهم الاجتماعية الرقمية من خلال استخدامهم للوسائط الرقمية.

ولا يتردد منصوري في الجهر بقوله «لقد خلقت التكنولوجيا الرقمية مجموعة جديدة من أطر المشاركة في التفاعل، بما يتيح للأفراد فرصة القيام بأدوار ومسؤوليات مع محاوريهم، وتوفير طرق جديدة لإنجاز أمور مثل «النعير الرقمي» أو في «عزل العصبيات الأخرى» و«تشويه صورة عصبية ما رمزيًا».

مساحات التلاقي

في تأملات عميقة لـ(خطابات الكراهية) المنتشرة في المحتوى العربي بمواقع الإنترنت، وفي فصل كامل من الكتاب، يرصد منصوري أشكال ومسارات خطاب العصبيات في المجتمع الرقمي، لافتًا إلى أنها متعددة متنوعة ما بين «الخطاب العنصري» و«الخطاب القومي» و«الخطاب التكفيري» و«الخطاب الديني/‏‏‏‏الطائفي/‏‏‏‏المذهبي» و«الخطاب السياسي»، واصفا إياها بأنها «كلها خطابات تستنسخ نفسها بنفسها، على الرغم من تنوع حقولها العامة»، وموضحا «أن العمل المشترك بين مجموع التفاعلات الرقمية لم ينتج خطابا موحدًا يدعو، مثلًا، إلى التسامح والحوار، أو إلى مساحات التلاقي، بل على العكس، جعل البيئة الرقمية، في أغلبها، مكانًا لتصفية حسابات المجتمع الواقعي، أو مكانًا أوسع لساحات التصارع».

فعندما يستخدم الأفراد التقنيات الرقمية (كأداة ثقافية مستجدة)، نادرًا ما يفعلون ذلك فرادى، فهم دومًا يقومون به مع آخرين. وبذلك، يعتبر التفاعل جانبًا من جوانب الفعل نفسه، الذي يجسد عملًا مشتركًا يشارك فيه الناس لإنتاج أشكال الخطاب في المجتمع الرقمي. وتأخذ هذه الأشكال الخطابية (التي تعبر عن واقع ذاتي أو جماعي) اتجاهات مختلفة باختلاف السياقات الثقافية للأفراد ودوافعهم التي توجه التفاعلات الرقمية نحو ممارسات رقمية متنوعة.

تصنيف الفاعلين

يطرح الباحث منصوري في كتابه سؤالًا أساسيًا عميقًا يبحث عمن ينتج أشكال الخطاب في المجتمع الرقمي؟ هل هو تفاعل الأفراد مع الوسائط الرقمية، أم أن الوسائط الرقمية باتت تمتلك القدرة على خلق طرق تفاعل الناس مع بعضهم بعضًا وتوجيه ممارساتهم الرقمية وتوجيه سلوكياتهم لأفعال عصبوية؟، ويعرض بعض النماذج والأمثلة الواقعية في المجتمع الرقمي، للوصول إلى فكرة أساسية لا تستثني خطورة «القيادات الرقمية» من «جيوش رقمية» و«جماعات متخصصة» و«أفراد محترفين» يشكلون «أصحاب القرار» و«المنظرين الحقيقيين» في المجتمع الرقمي، مصنفًا الفاعلين في إنتاج المحتوى ما بين (منتج عفوي، منتج متفاعل، منتج موجه...)، ومؤكدًا أن صعوبة الجواب عن ذلك السؤال الأساسي دفعته لطرح كتابه، ومحاولة تفسير مفهوم الهوية الرقمية التي تقع ما بين تعريفين مهمين. طارحًا الآليات التي يعدها مدخلا للمواجهة الأساسية للعصبية في المجتمع الرقمي، عبر خطوات عملية تمكّن القارئ من تكوين حالة الوعي الرافض لهذه الممارسات الرقمية العصبوية من جهة، وخطوات إجرائية يمكن تطبيقها للدخول إلى حيّز المواجهة من جهة أخرى.

تعريفان لمفهوم الهوية الرقمية

1 تقني

2 اجتماعي

الفرد لن يبقى دون هوية تسهل انضمامه إلى العالم الرقمي

البيانات البيومترية التي توفرها الهوية باتت جزءًا من حياة الأفراد

الممارسات الرقمية تعبّر عن هذه الهوية

هناك أنواع هويات مختلفة في المجتمع الرقمي

مبادئ الهوية الرقمية التقنية

الشمولية

الملكية

السهولة

السرية

الموافقة

الشفافية

الأمن والنزاهة

حق البيانات

الاستخدام العادل

مبادئ الهوية الرقمية الاجتماعية:

اللغة

آداب التواصل

أخلاقيات التواصل

التواصل الثقافي الرقمي

التبادل الثقافي

الانفتاح

الحوار

التكامل الإنساني

4 آليات لمواجهة العصبيّة في المجتمع الرقمي:

تعزيز الأطر القانونية الرادعة لخطاب العصبيّات

تعزيز التعليم الرقمي كاستراتيجية مواجهة

التربية على المواطنة والمواطنة الرقمية

تطوير المهارات النقدية لدى المستخدمين لمواجهة العصبيّات

الدكتور نديم منصوري

مواليد 1974.

بكالوريوس في الفلسفة 1995.

إجازة جامعية في علم الاجتماع 1998.

الدكتوراه 2006.

2007 - 2012 أستاذ في الجامعة اللبنانية كلية إدارة الأعمال والعلوم الاقتصادية.