في عام 1999، عُرِضَ مسلسل (الفصول الأربعة)، وهو عَمَلٌ يُعطي لِكُلِّ حلقةٍ مَوضوعًا -شبه مُستَقِلٍ- ليتّحد مع غيره في تشكيلِ لوحةٍ متكاملة تُعبّر عن الموضوع الأكبر للعمل وهو يوميات عائلةٍ دمشقيّة. سألني صديقي: «بعدَ عشرين سنة من مشاهدتك لهذا العمل؛ هل يتحمل وعيُك -الآن- أن يعيدَ المشاهدة؟!».

كان سياقُ السؤالِ استحضارا لاختلافِ التلقي بعد تراكُمِ الخبرة بأشكالها المتعددة.

لم أُجبه مباشرةً؛ لأني من أولئك الذين تخيفهم الأسئلة؛ لا لذاتها، بل لأنها تقع في فَخِّ الأجوبةِ التي تَعقد الصلةَ -في اللاوعي-بين المركز والهامش، أو المتورطةِ بتلبّس ما يُنقد في الأفكار والرؤى الواقعية. لهذا قلتُ له بعد تفكيرٍ ينقلُ السؤالَ إلى مكانٍ آخر: لنجعل العملَ يُجيب؛ فإحدى الحلقات جاءت بعنوان (الجبال لا تلتقي)، وهذا العنوانُ يُضمِر نواقصَه المأخوذة من المثَل؛ وهي: (لكنَّ البشرَ يلتقون)، فيأتي السؤالُ: ما معنى أن يلتقي اثنان، والمتحدث منهما واحد؟ أو لأَقُلهَا بطريقةِ سبيفاك: «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟» ومن هنا كانَ العنوان (الجبال لا تلتقي) أي أنَّ البشر في تعاطيهم الثقافي كصخورٍ تجمّعت فصارت جَبلًا، ومن ثم تتعاطى مع مفهومِ (التبعيّة) كنمطٍ واحدٍ سواءً كانت التبعية خارجية (استعمارية)، أو داخلية (جنسويّة أو طبقية).

ومُرادي توضيح أنَّ العمل -هنا- يَتحدّث بسياقِه، لا يُتحدثُ عنه بسياقات أخرى، وذلك حين طرح مسألةَ التابع الذي لا يستطيع الكلام، وكأنَّه يُشير إلى دائرةٍ أكبر، وهو ظَنُّنا بأنَّنا خارج دائرةِ التمركزات المتعددة، بينما رغبتنا وسلطتنا الداخلية تجعلنا نصحو بأحضان المركزية بشكلٍ من الأشكال.

وكأنَّ سؤالَ صديقي هو: هل الوعي الدرامي المتوالد من الإنتاجِ الحالي يَتقبَّل أن يُعيدَ عَملًا كالفصول الأربعة؟ فكانت الحلقةُ إجابة عنه.

تطرح الحلقةُ حكايةَ رجلين أحدهما من المغرب، والآخر من المشرق؛ التقيا بعد خمسٍ وعشرين سنة من لقائهما الأول في حرب تشرين 1973، ولما أخبرَ المغربيُّ أهلَ المشرقي أنَّ ابنهم كانَ بطلًا في حرب تشرين، افتخرت به العائلة.

هذا المشرقيُّ يُحبُّ أن يُفتخر به لكنَّه مع ذلك لم يُخبر أهلَه وجماعتَه؛ لأنَّه انتظر مَن يتحدث عنه، إذ بغير هذه الوسيلة لن يُصَدّقَ كلامه.

كان هذا معنى الحوار الذي جرى بين المشرقي (نجيب)، وأحد عُدلائه (عادل) إذ يقول عادل: «لولا الصُدَف ما عرفنا أنَّ نجيبًا يتصف بصفتي الشجاعة والشهامة، وأما غيره فإنَّه يصنع السياقَ ليتحدث عن إنجازاته» وسؤال عادل كان همَّا لدى سبيفاك حين تتساءل: «هل السياقات الثقافية الملائمة لكلام التابع موجودة»، ولما أتبعَ عادل سؤالَه باستنكار: لماذا لم تحكي هذه القصة؟

قال نجيب: «نحن نعيشُ في واقعٍ كدائرةٍ لها مركز، والناس موزعون على خطوطِ طولها وعرضها، وكلما قَرب أحدهم من المركز لمع، وثبت، وقوي»، هنا يفترضُ أنَّ نجيبًا من ضمن هؤلاء الموجودين على الخطوط، لكنه يقول: «أنا خارج الدائرة كلها، أنا كالسابحِ في الفضاءِ الخارجي، معدوم الوزن والصوت، فلو تحدثتُ لن يسمعني أحد. ولم تسمعوني -الآن- إلا لأنَّ غيري هو من تحدث عني».

هنا سألتُ صديقي: لو تحدثت المهرجاناتُ، أو المحكمون المعتمدون -من قِبل الوعي الجمعي لما يُقبَل أو يُرفض- عن الفصول الأربعة من زوايا تقنية حديثة، كيف ستتلقى تعليقاتهم وما علاقتها بخبرتك في تلقي المسلسل الآن؟ بأي معنى ستفهم الفصول الأربعة؟! هل ستُعيد مشاهدته من زوايا جديدة؟ كيفَ أعادَ بعضُهم مشاهدةَ العملِ، من جراءِ الحديثِ عن الفروقات بين سورية قبل الحرب و بعدها؟ لكنَّ السؤالَ الأهم: هل شُوهِدَ مسلسل الفصول الأربعة في سياقاته الخاصة؟ وما معنى ذلك؟

يمكن أن نطبق هذا على مركزيةٍ سياقية في تاريخِ العرب، وهي الدراما التاريخية؛ لأن مفهوم الدراما التاريخية يتحرك في مجالي الأدوات الدرامية المشتركة، والمعنى التاريخي في الأذهان؛ فمسلسل عمر مثلًا، كيف شُوهِد؟ وبأي خبرة؟ وما السياق المركزي الذي تتجلى فيه الأحداث، ومن ثم ما الاستراتيجية التي تتحكَّم في نوعِ الحدث المعروض على الشاشةِ، المتسقِ مع مفهوم التابع والمتبوع؟

وبما أنَّ السياقَ في مسلسل عمر، ظاهرٌ لظهور شخصيةِ عمر الإسلامية، فإنَّ التحيّزات الثقافية الخاضعة لهذا السياق، بارزة، أما الأعمال التاريخية الأخرى فنقبض على سياقها الأبرز من خلال المعنى التاريخي في الأذهان، المحرك للوعي الجمعي في تفاعله ضمن سياقات مركزية.

ومن هذا السياق المركزي تبرز إشكالية المشاهدة، فنكون أمام المشَاهَدة المستلبة، تلك التي تبحث -في لا وعيها- عن سياقات للحكم على العمل من خارجه.

فيأتي السؤال: أين صوت المشاهِد/‏التابع؟ هل ما نسمعه هو صوته، أم صوت الثقافات المحمّلة على ظهره؟ .

كان أرسطو يتحدث عن المحاكاة، كشيءٍ نميّزه من خلال الحقيقة التي نعرفها، لكن إذا كان التاريخُ لا يُعرفُ على وجهِ الحقيقةِ الواحدة، فعن أيِّ تاريخٍ نحاكي؟ إذ الدراما -في بنيتها الكلاسيكية- حوارٌ يَصْنَعُ حدثًا، وتتجسّد في حركةِ الشخصيات (التاريخية) أثناء العمل.

إذن: كيف نؤسس لمفهوم الدراما التاريخية في سياق الحدثِ الدرامي نفسه؟

ابتداءً أقول: إنَّه السياق الذي يُنـْبِتُ تاريخًا دراميًا لليوميات المتلبسة في المشاهد، أي تلك التي لا يَشُكّ فيها، وذلك لنستظهر من خلاله صوتًا للمشاهد/‏رأيًا حقيقيًا حين يحكي، أي يتفاعل مع شخصيات التاريخ من خلال واقعه الحقيقي، أي بلا حمولة ثقافية تأتي من خارجه، ومن هنا أَعُدُّ مسلسل (الغفران) دراما تاريخيَّة، من خلال سلوكِ شخصيتي العمل (عزّة وأمجد)؛ في صراع الحياة اليومية، لكن على أساس أنهما كُثيّر وعزة من جهة، وكُثيّر والمتنبي من جهة أخرى.

أما المتنبي فالعمل يبدأ ببيته: «نَصيبُكَ في حَياتِكَ من حَبيبٍ/‏نَصيبُكَ في مَنامِكَ من خيَالِ»، وقد بُنِيَت الحكايةُ بالصراع من لَبِنَات هذا البيت؛ فعليه يرتكز خيالُ أمجد.

وأما كُثيّر فهو المتلبس بأمجد سرّا؛ وقد انتهى المشهد الأخير ببكاء أمجد الذي لا يبكي أبدًا؛ في تمثل لقول كُثيّر: «وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّة َما البُكا/‏ولا مُوجِعَاتِ القَلبِ حتَّى تَوَلَّتِ».