مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير الماضي؛ أصبحت الشغل الشاغل للعالم. إذ تتحرك الآلات الإعلامية الضخمة بجهات العالم الأربع لمحاولة فهم وحيثيات الحدث الأبرز وتفسير الدوافع الكامنة والمعلنة، وضروراتها، وهل هذه الحرب تأتي بتوقيتها أم دخيلة على الاستراتيجية الدولية وثمة خطأ أدى لاندلاعها؟ في الحقيقة، هناك بعض التصريحات الأمريكية أشبه بالتحريضية أو تهيئة الرأي العام الروسي للقيام بما يثبت أن روسيا دولة عظمى وتستحق أن تكون مكانتها وقيمتها كما لو كان الاتحاد السوفيتي باقيا لهذه اللحظة.

الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في مقابلاته الصحفية قال: إن روسيا دولة إقليمية، وموازنتها الاقتصادية السنوية تشبه دولا كإيطاليا وإسبانيا وكوريا الجنوبية... والسيناتور الراحل جون ماكين وصفها بمحطة غاز لا أكثر. والسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي دعا لاغتيال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من رجال الـ سي آي أيه المندسين في الكرملين، ووصف الاقتصاد الروسي بالشبيه باقتصاد ولاية كاليفورنيا الأمريكية.

لم يخف بوتين حالة النوستاليجيا للعصر الذهبي للاتحاد السوفيتي والذي عبر مرارا وتكرارا لو كان في ذلك الوقت لمنع الانهيار، والحرب الدائرة فرصة تاريخية، وربما لن تتكرر لإثبات ما يتمناه القيصر. إن التحريض والتهيئة الأمريكية القديم والجديد له عدة أهداف، وأهم أهدافه توريط روسيا بحرب طويلة الأمد لاستنزافها اقتصاديا والتعرف على المزيد من الأسلحة الروسية المتطورة، إذ إن الرعب والرهاب الغربيين من السلاح الروسي في أعلى ذروته، وتحركات حلف الناتو المريبة على حدود روسيا ومحاولة تمدده شرقاً كان بمثابة القشة التي قصمت ضهر البعير. تحاول واشنطن خنق روسيا إرميتيكياً (معزولة)، عبر زيادة التحالفات وتوجيه الوعود والترهيب لكل دولة تحاول أن تساعد روسيا للخروج أو التهرب من العقوبات المفروضة عليها، وأكثر هذه التهديدات للصين بالدرجة الأولى مصدر القلق للولايات المتحدة.

وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ودقة تصريحاته ومواجهة العالم دبلوماسيا، يعطي انطباعا بأن هذه الحرب محسوبة حسابا دقيقا غير قابل للخطأ. وإذا صحت هذه الانطباعات فإن العالم مقبل على تغير المرتسمات السياسية الكبيرة وإزاحة الولايات المتحدة على رأس الهيمنة الآحادية للعالم. حتى نقدم مقاربة مقنعة فلا بد من دراسة نقاط القوة لدى الجانبين.

فالروس يعتمدون على التاريخ ويعتبرون الأراضي الأوكرانية جزءا لا يتجزأ من الأراضي الروسية، والعامل الآخر يكمن في امتلاك طاقة الغاز التي تشغل مصانع أوروبا برمتها، وبالتالي فإن أوروبا لن تغامر بمصالحها من أجل أوكرانيا، وأقوى النقاط التي تحسب لروسيا نوعية الأسلحة والصواريخ ودقتها التي تسبق الصوت بخمس مرات، إضافة للصورة الذهنية السلبية للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا (الاستعمار الكلاسيكي) وكره العالم لهم.

أما ما يستند عليه الطرف الآخر (الغرب)، اعتبار أوكرانيا دولة مستقلة وذات سيادة وهي ضمن المجتمع الدولي المعترف بها وبحدودها الإدارية والبحرية والجوية، وبالتالي ستعاني موسكو كثيرا بما يسمى شرعيتها على هذه الأرض، لا سيما جزيرة القرم قبلها والتي ضمتها عام 2014، والحقيقة العنيدة التي تأبى الاختباء، أن الغرب ماكر وخبيث، وقديما قالوا: لا يأتي من الغرب ما يسر القلب. سياسة الدم البارد وإظهار البرود بالأقوال والأفعال تتم على قدم وساق، وأخشى ما أخشاه أن هناك سيناريوهات معدة مسبقا وتقابل كل مرحلة على حدة.

على كل حال الحرب مستمرة، وانعدام الثقة، وانهيار العلاقات، وعدم اللجوء للهاتف الأحمر يبدو مستحيلاً، فالطرفان لهما أهداف، وأجزم بأن المصالحة بينهما قد ماتت ودفنت، فالإستراتيجيتان تتصارعان بشكل عنيف، وعلى العالم أن يتهيأ لما هو قادم من تغييرات تكتونية، وهذا حال الدنيا، لا يبقى الحال على ما هو، والطبيعة تأبى التغيير، إلا أن هناك ما يسمى الاجتراح والقفز إلى عالم الميتافيزيقيا لمعرفة ما ستؤول إليه هذه الحرب التي تتدحرج وتنداح بكل الاتجاهات وعلى كافة الصعد، والتي سيكون عنوانها الأبرز السيطرة على مصادر الموارد والطاقة.