دار الحديث في المقالتين السابقتين حول إشكاليتين من إشكاليات التطرف، الأولى: كانت من ناحية نظرية، وهي فرضية عدم موت الإسلام السياسي وانتهائه، وأن التعاطي مع هذه الفرضية كفيل بجعل مسيرة نزع التطرف ومكافحته أكثر واقعية، إذ إن الغالب الأعم من مصادر التطرف الديني والسياسي في العالم العربي اليوم نابع بطريقة أو بأخرى من حراك الإسلام السياسي بمختلف أطيافه، وحراك ما بعد الربيع العربي الذي ما زال جمرًا تحت الرماد - في نظري-، وربما أثَّر تطرف الإسلام السياسي في أنواعٍ أخرى من التطرف وعمل على إثارتها، تحريكا للمشهد من حوله، للوصول إلى الفوضى التي ينفذ منها عادة إلى تحقيق مبتغاه.

والإشكالية الأخرى: وهي حالة تطبيقية، كانت حول إمكانية النفاذ الواسع للإسلام السياسي، من خلال قرار الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، بجعل 15 مارس من كل عام يوما لمكافحة الإسلاموفوبيا، وهو الأمر الذي بدأ مع جهود الدول الإسلامية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية لمكافحة هذه الظاهرة النكدة، حيث اعتبر عدد من قيادات الإسلام السياسي أن حظر الحكومات العربية لمجموعة من الأفراد والجماعات والتنظيمات وتصنيفها إرهابية من قبيل «الإسلاموفوبيا».

واستكمالًا للحديث حول إشكالية التطرف ومشكلاته، فإن من الحلول الجديرة بالنظر والتطبيق هي: مسألة فك الارتباط بالنص مقابل المصلحة من جهة، وكثير مما يصنف من قبيل الممنوعات أو المكروهات التي أرهق منعها المجتمع والناس من جهة أخرى، حيث إن منعها أو تحريمها ينطلق من أدلة ظنية لا تستند على دليل قطعي الدلالة والثبوت، أو إنها ذات أدلة ضعيفة، أو إنها منضوية تحت عموم إحدى قاعدتين ضيقتا مساحة المباح، وحجرتا الواسع في ديننا الحنيف، وهما قاعدتا (سد الذرائع) و(الأخذ بالأحوط).

وتشكل العلاقة الثنائية بين النص وبين قضايا فكرية وثقافية متعددة، نقطة مركزية ومرجعية، في التعاطي مع المنتجات الحضارية الجالبة للمصالح، والدافعة لكثير من المفاسد المضرة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، كما أنها تحتل حيزا واسعا تقوم عليه الدراسات الفكرية والشرعية المعاصرة، ومرد ذلك راجع إلى الارتباط الوثيق بقضية مكانة النص الشرعي وقدسيته، وقضية الاجتهاد في النوازل، كما أنها مرتبطة بقضية صلابة الأصول الفقهية وسيولتها، ومناهج الاستنباط، وما يتبع ذلك من خلفيات علمية وفكرية، مما ألقى بظلال ثقيلة على فتاوى المعاصرين حيال كثير من المسائل المعاصرة، التي تهم الفرد والمجتمع والدولة، وهذا أدى إلى تراكم مجموعة من الانسدادات المعرفية التي أعاقت العمل على كم هائل من المناشط في ظل الحلال والحرام وما يدور بينهما من الشبه التي تلغى وتمنع من باب سد الذرائع، أو الأخذ بالأحوط.

وثمة نظرية خلاَّقة تتيح للفكر والعقل المسلم التعاطي المرن مع الكثير من القضايا النظرية والتطبيقية في مجال المعاملات، ومجريات الحياة سياسةً واقتصادًا واجتماعًا وثقافةً، هذه النظرية هي «نظرية المصلحة» التي قعّدها ونظّر لها سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت 716 هـ)، وصلب النظرية قائمٌ على تقديم المصلحة على النص في مسائل المعاملات، دون مسائل العبادات، إذ المصلحة دليل تشريع قائم بحد ذاته مستقل ما لم يُعارض بنص قطعي الدلالة، وقطعي الثبوت.

ينطلق الطوفي في بناء نظريته هذه من ثقة عالية بالعقل البشري وأنه مستقل بمعرفة المصالح والمفاسد، وأن الله تعالى جعل لنا طريقًا إلى معرفة مصالحنا عادة فلا نتركها لأمر مبهم يحتمل أن يكون طريقًا إلى المصلحة أو لا يكون، إذ قرر الطوفي أن النصوص الشرعية متضمنة للمصالح، وأن الشريعة جاءت برعاية مصالح العباد جملة وتفصيلًا، لكنّه افترض في الوقت ذاته أنّ النّصوص قد تُعارض المصالح على نحو يتعذر معه الجمع، وعندها تُقدَّم المصلحة على النّص، إذ إن المصلحة أقوى مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع، وأنه في غير دائرة العبادات فإن المصلحة تقدم على النص والإجماع إذا عارضتهما.

والطوفي حينما فرّق بين العبادات التي لا يستقل العقل بها بدون النص، والمعاملات التي يرى أن العقل قادر على تمييز المصلحة فيها، خرج من إشكالية النصوصية، والتزام النص على أي حال كان، خصوصا وأن النصوص الشرعية في المنهج السلفي تؤخذ بتفسيرها البشري المنطلق من فهم السلف وهم أفراد ثلاثة قرون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن سار على نهجهم إلى الوقت الحاضر، فالمسألة إذن متربطة بالفهم البشري، في نهاية الأمر، يقول الطوفي في شرح حديث: «لا ضرر ولا ضرار»: «... فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها، وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها، لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول، ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته، لأننا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل النافع.» (التعيين في شرح الأربعين، 274 بتصرف).

وهنا من المهم أن يناقش المختصون ويعرضون ما عندهم من مصالح متعينة في كثير من النظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك المسائل التي تساعد على تسهيل حياة الناس وتيسيرها، ولعلها أيضا تكون سبيلًا لفتح الذرائع بدلًا من سدها.

إن تفعيل «نظرية المصلحة» سيكون مساهمة فاعلة في نزع التطرف، وتجفيف منابعه، فنحن نرى اليوم حجم اللغط المثار حول برامج الترفيه والسياحة في البلد، ولو على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها (الواتس أب)، والتي يتم التشنيع عليها وعلى صانعيها ومرتاديها، ومردها في النهاية إلى الجواز والإباحة، ولو قلنا بالإشكاليات المترددة بين الكراهة أو التحريم، لحلت نظرية المصلحة للطوفي هذه الإشكاليات بكل جدارة، فكيف إذا كانت في أمر مباح في أصله، وفيه منفعة اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تخطئها العين.