مرة أخرى تدشن المملكة الحملة الوطنية للعمل الخيري على منصة (إحسان)، بعد النجاح الكبير الذي حققته العام الماضي والذي فاق كل التوقعات، وأدى إلى جمع مبالغ هائلة أسهمت في تقديم الدعم للمحتاجين، وفق معطيات علمية دقيقة وإحصاءات مستمدة من الواقع وتنفيذ دقيق متكامل، وهو ما أسفر عن نتائج باهرة بعد أن قاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بمساندة عضيده وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - مسيرة الخير وكانا قدوة للآخرين من خلال التبرع السخي الذي قدماه، ومن ثم تدافع العلماء وكبار المسؤولين ورجال الأعمال والمواطنون للإسهام في هذا العمل المبارك.

المنصة التي طوّرتها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) تعاملت بمنتهى الحرفية مع الشواغل التي كانت تشكّل قلقا للمسؤولين، وأدت إلى تطوير العمل الخيري والإنساني وقضت على كافة أشكال العشوائية وعدم التنظيم، وحرمت دوائر الإرهاب من إمكانية التسلل واختلاس الأموال لاستخدامها في أعمالها الشريرة وتوجيهها لتدمير مقدرات البلاد والاعتداء على العباد. وللتأكيد على جودة العمل الذي تم إنجازه تكفي الإشارة إلى أن التقارير تؤكد أن منصة (إحسان) استطاعت تحقيق أهدافها التي تمثلت في تعزيز قيم العمل الإنساني لأفراد المجتمع، وتشجيع مؤسسات القطاع غير الربحي وتوسيع أثرها، وتفعيل دور المسؤولية الاجتماعية في القطاع الخاص باستحداث أدوات عصرية، ورفع مستوى موثوقية وشفافية العمل الخيري والتنموي وضمان وصول الدعم لمستحقيه، إضافة إلى الارتقاء بمفاهيم الانتماء للوطن والتفاعل مع قضاياه.

من عناصر القوة التي أسهمت في نجاح المنصة خلال عامها الأول هو أنها تحولت إلى بوابة تقنية متكاملة، تستخدم أفضل البرامج العلمية الحديثة التي تقلل احتمالات الخطأ، وذلك تحت إشراف كامل من الهيئة السعودية للذكاء الاصطناعي، مما أكد بوضوح أن التحول الرقمي الذي نادت به رؤية المملكة 2030 أصبح واقعًا معاشًا نشاهده حتى في العمل الإنساني.

إضافة إلى أن جميع الجهات المختصة بمراقبة تدفق الأموال، مثل وزارات الداخلية، والمالية، والعدل، والبنك المركزي، ورئاسة أمن الدولة، وهيئة الحكومة الرقمية تشارك في جهود المنصة. باختصار نستطيع الآن أن نقول بمنتهى الاطمئنان إن عهدا جديدا قد بدأ في تقنين العمل الخيري والإنساني الذي عرفت به هذه البلاد منذ تأسيسها، وترسيخ مفاهيم التكافل والتضامن وغيرها من القيم الإسلامية الكريمة، ومعاني المروءة والكرم المستمدة من العمق العربي الأصيل، وإن الدعم سيصل إلى المتعففين الذين يستحقونه بمنتهى اليسروالسهولة، دون الخوف من امتداد أيادي السوء إليه. خلال السنوات الماضية ظلت ظاهرة التستر وانتشار المتسولين في الطرقات وأمام إشارات المرور وعلى أبواب المساجد تشكل هاجسًا كبيرًا للمواكنين، إضافة إلى ما تشكله من تشويه حضاري. ورغم تنظيم حملات متكررة لضبط أولئك المتسولين ومنع تجمعاتهم إلا أن الظاهرة ظلت موجودة واتسعت جوانبها. وللقضاء على المشكلة بشكل جذري صدر نظام مكافحة التسول الذي حددت مادته الأولى في الفقرة الخامسة مفهوم المتسول بأنه «مَن يستجدي للحصول على مال غيره دون مقابل أو بمقابل غير مقصود بذاته نقدًا أو عينًا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في الأماكن العامة أو المحال الخاصة، أو في وسائل التقنية والتواصل الحديثة، أو بأي وسيلة كانت».

ووضعت عقوبات صارمة تصل إلى السجن مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة مالية لا تزيد على 100 ألف ريال أو بهما معا.

كذلك سارعت الأجهزة المختصة منذ وقت مبكر هذا العام إلى شن حملة منظمة استهدفت أوكار المتسولين وإيقاف الذين يقتاتون على مشاعر الرحمة والشفقة، لأن معظم من نشاهدهم عند إشارات المرور من النساء والأطفال هم في الأصل أعضاء في عصابات تمتهن التسول، وهناك جماعات تقف وراءهم وتقوم بنقلهم وترحيلهم واستلام الحصيلة اليومية منهم. أمام هذه الصرامة لم يجد الذين أدمنوا مخالفة النظام سوى اللجوء إلى ما بات يعرف باسم «التسول الإلكتروني»، حيث بدأت تنتشر في الفترة الأخيرة رسائل عبر وسائط التواصل الاجتماعي أو العناوين البريدية لاستدرار العطف والشفقة. الغريب في الأمر أن هناك من يقع في هذا الفخ ويبادر إلى التفاعل مع هؤلاء المتسولين الأشباح ويقوم بتحويل الأموال إليهم، دون الانتباه إلى أنهم بهذا الفعل يضعون أنفسهم تحت طائلة الملاحقة القانونية لأن ما يقومون به - رغم نبل المقصد - هو مخالفة صريحة للأنظمة.

نعم، نحن شعب عاطفي نتأثر بمعاناة الآخرين ونتفاعل معهم بما وهبنا الله تعالى إياه من خيرية وحب لمساعدة الناس ومد يد العون إليهم، لكن تلك الميزة لا ينبغي - تحت أي ظرف - أن تتحول إلى ما يمكن أن يوقعنا في مخالفات قانونية ويدفعنا إلى مد يد العون لمن يستغل أموالنا في تدمير بلادنا وإضاعة مكتسباتنا وتهديد أمننا واستقرارنا.

بلادنا تقف الآن أمام مرحلة فارقة من تاريخها بعد أن استطعنا اجتثاث آفة الإرهاب والقضاء عليها، وتمكننا بفضل الله من تجفيف منابع تمويله. ولإتاحة الفرصة أمام من يريدون فعل الخير فقد بادرت الدولة بتوفير البديل الآمن الذي يقدم العون للمحتاجين بوسائل مأمونة، وبادرت قيادتها لتقديم تبرعات سخية.

لذلك أقول بوضوح إن تبرع البعض لمن تقتصر معرفتهم بهم على مواقع الإنترنت والعالم الافتراضي الذي يمكن فيه للجميع انتحال شخصيات غيرهم وادعاء ما شاؤوا من الأكاذيب، هو نوع من الإهمال الجسيم الذي يستوجب العقوبة، وإنه ليس هناك بعد الآن عذر مقبول للوقوع في فخ ممولي الإرهاب وداعميه، مهما كانت الذرائع والمبررات.