جيد أن «يؤمن» كثيرون بطقوس الانتخابات في لبنان، وأن يذهب منهم من يذهب إلى المشاركة الجدية في استحقاق الخامس عشر من أيار (مايو) المقبل لاختيار من سيمثلهم في البرلمان المقبل...وجيد أكثر أن تبقى هذه الممارسة الدستورية جزءا من آليات عمل بعض الباحثين عن المشاركة بالسلطة من خلال توسل الطرق السلمية والقانونية في دولة مثل لبنان، كان العنف صنو وجودها على مدى العقود الخمسة الماضية.

والانتخابات الراهنة لن تختلف عن تلك التي جرت منذ انتهاء الحرب ووضع دستور الطائف ...كانت أيام الوصاية الأسدية الموؤودة تجري تحت سقفها وليس فوقه، واستنادا إلى خريطة معدة سلفا توزع بموجبها الأحجام والأسماء لمن هم تحت التأثير المباشر لصاحب الوصاية، فيما «يُترك» للبعيدين عنه وعنها حصّة محسوبة بدورها لزوم «التنوع ضمن الوحدة» وشكليات النظام الديموقراطي و«معنى» الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

اندثرت تلك الوصاية لكن المناخ العام الذي تشكل في وجودها بقي مخيما بعدها..أي بقيت هذه العملية الدستورية محكومة بمعطى غير دستوري ولا نظامي ولا طبيعي منعها ويمنعها من الاكتمال. وذلك المعطى كان ولا يزال سلاح حزب إيران في لبنان، الذي أخذ مداه في الداخل الوطني بعد انسحاب إسرائيل في أيار العام ألفين، وتطور ذلك المدى بعد اندحار الوصاية السورية في نيسان 2005...لكن تطوره ذاك حمل مفارقة لافتة:

تعزز وضعه داخل البيئة المذهبية الحاضنة له والصادر عنها في مقابل انكفائه تلقائيا عن إمكانية الحضور والتأثير داخل البيئات المذهبية والطائفية المختلفة ولأسباب كثيرة. أولها زلزال جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريرى وغياب «الراعي» السوري وانفلات غالبية سيادية لبنانية من أطرها الذاتية والخاصة باتجاه منحى وطني عام عابر للاصطفافات الانقسامية السابقة. وهو ما عنى الفوز بالأكثرية النيابية في دورتي انتخابات 2005 و2009.

بين المحطتين المذكورتين وبعدهما، جرى «الاحتكام» إلى الأصوات والصناديق الموازية لمحاولة «ضبط» مسار الأمور: شاعت التفجيرات والاغتيالات وانفتحت مخازن السلاح! لكن الأخطر (ربما !) هو التمكن من الإمساك بعنق الخط السيادي والاستقلالي والوطني من خلال «جذب» ميشال عون وتياره إلى المحور الممانع الإيراني - الأسدي بعد إغرائه بتحقيق مبتغاه الرئاسي، ولو بعد حين!

جرت مياه كثيرة في نهر الأحزان والمحن هذا قبل أن يتبين اليوم أن عوامل الجذب التي كان يحتوي عليها عون وتياره بالنسبة إلى المحور الإيراني، تقلصت مسيحيا ووطنيا بعد انكشافها الذي عنى فشلها... وبعد إيصالها لبنان إلى حالة عري وهريان غير مسبوقين، ثم إمعانها في تجيير المشاع السيادي والدستوري والمؤسساتي الوطني العام لمصلحة إيران وحزبها في مقابل محاولة إعادة «تدوير» الحالة العونية وانتشالها من القعر الذي بلغته!

في لغة الانتخابات ولعبتها يعني ذلك دعم وريث عون، صهره جبران باسيل في الدوائر المختلطة طائفيا، منعا لانكسار أكثرية نيابية حصل عليها ذلك المحور في انتخابات العام 2018...ثم منعا لتبلور مناخ وطني عام، لكن هذه المرة تحت وطأة الانهيار المعيشي والمالي والاقتصادي الشامل أكثر من وطأة الالتزامات السياسية، وإن كان الناس في جملتهم يربطون هذا الانهيار بتلك الالتزامات التي يعتمدها ثنائي عون - حزب الله أولا وأساسا !

أهمية العملية الانتخابية الراهنة تكمن في أنها ستعبر عن انكسار الغطاء المسيحي «الشرعي» الذي قدمته الحالة العونية لسلاح حزب إيران ومشروعها..ثم في أنها ستكون خطوة أولى من سلسلة خطوات على طريق الخروج من الحفرة التي سقط فيها لبنان وأهله...

لكن الاستدراك يعني القول بأن «قضايا» البلد الكبيرة والأساسية لا تقررها أصوات الناخبين في صناديق الاقتراع. هذا ترف غير متوفر في زمن المحل والقحط والانهيار ثم في زمن ازدواجية السلطة والسلاح ثم في زمن انقلاب أولويات وهموم اللبنانيين، الذين فرقتهم الهويات السياسية والمذهبية والطائفية ووحدتهم مصيبة الانهيار الشامل!

قد يعود المحور الإيراني إلى تحقيق بعض التقدم في عدد نوابه نتيجة انكفاء المكون السني عن المشاركة بزخم في الانتخابات والارتباك الذي أصاب عموم الصف السيادي نتيجة لذلك، لكن «النتيجة» العامة لن تتغير: ثنائي عون - حزب إيران أوصل لبنان إلى الحضيض ومسؤوليته أولى وأساسية في ذلك ولن تعدّل انتخابات نيابية مكسورة الميزان في هذا العنوان!

* ينشر بالتزامن مع موقع لبنان الكبير