أسهمت شبكات التواصل الاجتماعي في إذابة العديد من القيود الوهمية التي صنعت قبل ظهورها، حيث عجلت في تطبيقات مفهوم «العولمة» الإعلامية التي تصهر سكان العالم كافة في قرية، بل شقة صغيرة. لن أغوص كثيرا في مفهوم «العولمة»، وعوامل تحققها، ولكنني سأذهب في اتجاه أحد المظاهر الرمضانية التي تبرهن على حجم وقدرة تلك الشبكات على إحداث أي تغيير.

اليوم كثير من العادات المناطقية الرمضانية الشهيرة أضحت تتجاوز محيطها، وباتت من الإشارات المهمة والرئيسة في كل المناطق خلال رمضان. ولنا في تراثي «الغبقة» و«قرقيعان»، اللذين كانا محصورين في معظم دول الخليج والمنطقة الشرقية، خير مثال، إذ نشاهدهما اليوم ضلعا أساسيا في الموسم الرمضاني بمناطق المملكة كافة، بل أصبحت الأسر والجهات تتنافس فيما بينها، لتقديم أجمل احتفالية بهذه المناسبة.

يمتد الأمر ليشمل بعض عادات المأكل والمشرب، التي أصبحت هي الأخرى ليست محددة بمدينة أو مقصورة على منطقة دون الأخرى. ففي السابق - على سبيل المثال - كانت أطباق الأكلات الحجازية الشهيرة محصورة في مائدة أهالي المنطقة الغربية، إلا أن الواقع اختلف تماما في الوقت الراهن، إذ أصبح الفول -مثلا- عادة وركنا أساسيا في معظم الموائد الرمضانية لأهالي نجد.

تلك نماذج بسيطة لمدى قدرة تلك الشبكات على إذابة جليد المناطقية، وقد يكون هنا الحديث من زاوية رمضانية فقط، لنزامن الفكرة مع التوقيت، لكن الموضوع في واقعه يحوي شمولية أكبر. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، احتفالات الزواج تأثرت هي الأخرى بامتزاج الثقافات، فمثلا العرضة النجدية تجدها حاضرة في حفل زواج بجنوب أو شمال المملكة، وقد يحضر لون من أحد الألوان الشعبية في المنطقة الوسطى.

ما يمكن تأكيده اليوم أن هذه الظاهرة -من وجهة نظري على الأقل- تشرق إيجابية، بل تعتبر من أهم ثمرات شبكات الإنترنت، فنحن في السعودية بمناطقها ومحافظاتها كافة لدينا كنوز تروي الوعاء الثقافي والتراثي والمعرفي، واعتزازنا بهويتنا وجمالياتها يمكننا من القدرة على تصدير تلك الثقافة بكل مكوناتها لما هو أبعد من محيطنا الداخلي. وهذا يتضح جليا في انتشار بعض الكلمات المحلية بالعالم العربي، فكلمة «جحفلة» متداولة عربيا في تطبيق «تيك توك»، وكأنهم توارثوها في ثقافاتهم، حيث إن استخدامهم لها بديهي وعفوي.

رحاب شبكات التواصل واسع جدا، ووعاء مثالي جدا لكيفية إظهار ثقافتنا المحلية، وتقديمها بشكل عفوي، ومن الشعب إلى الشعب، بالإضافة إلى أن العديد من برامج المملكة عبر رؤيتها 2030 تستهدف إبراز الهوية السعودية بمدلولاتها كافة، وهذا الذي يجعل الفرص والمحفزات لذلك الانتشار أكبر.

إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت تصدير ثقافتها خارج حدودها عبر شركات مثل «ماكدونالدز» و«ستاربكس» وغيرها، فشبكات التواصل الاجتماعي أسهمت، وبشكل كبير، ومن المستخدمين إلى المستخدمين، في تصدير ثقافة المملكة المحلية العامية.