تصدح حناجر كبار المقرئين بقراءات مجوّدة للقرآن، وطبقت شهرة كثير منهم الآفاق لإجادتهم ونقاء وقوة أصواتهم، وبلوغهم مستويات جواب الجواب وقرار القرار في الأداء الصوتي.

وارتبطت مآذن ومنابر الحرمين الشريفين، جنبا إلى جنب مع المشاعر المقدسة في قدرتها على إطلاق الملكات الإبداعية لكثير من المقرئين، كما شكلت في كثير من الأحيان منطلقا لاستعادة بعضهم لأصواتهم حتى لمن أصيب منهم باحتباس الصوت، وهي علة منعت عددا منهم من التلاوة والآذان لفترات مختلفة نتيجة أسباب مختلفة تتباين بين هذا القارئ أو ذاك.

وبحسب مؤرخي التراث والثقافة، فإن احتباس الصوت يعد داء مشاهير القراء والإنشاد الديني، كما يرون قصصا عن عدد من هؤلاء ممن استعادوا أصواتهم حين وجدوا أنفسهم في منابر الحرمين والمشاعر المقدسة، حيث تذكر المصادر التاريخية عددا من قصص المشاهير والقراء الذين تفجرت طاقاتهم وإبداعاتهم على مآذن ومنابر الحرمين.

وفي وقت يفسر البعض انطلاق أصوات المقرئين في الحرمين الشريفين، وبلوغها مراتب عالية ورفيعة جدا، وتحرر بعضهم في الحرمين والمشاعر من احتباسات الصوت التي لازمتهم فترات قبل أن يصلوا الحرمين والمشاعر، بأنها نوع من «الكرامة» يرى آخرون أن روحانية المكان وخصوصيته تطلقان قدرات القراء وتصل بهم إلى أقصى ما يملكونه من أداء رفيع.

الفشني يفقد صوته

تذكر مصادر أن المصري الشيخ طه الفشني الذي كان يقرأ القرآن الكريم بـ16 مقاما، وتحلى بصوت عذب، وقد حفظ القرآن وهو في الـ14 من عمره، وحصل خلال حياته على عدد من الأوسمة والنياشين من عدد من ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية، استعاد صوته في المشاعر المقدسة بعد احتباسه لفترة عقب وفاة ابنته التي كانت في العشرينيات من عمرها حينذاك، فاعتزل الحياة، وأصيب باحتباس في الصوت، ولكنه حين سافر بعد ذلك لأداء الحج، وحين كان على عرفات، تجلى واستعاد صوته، وأذن لصلاة الظهر في الحج، وعاد صوته أقوى مما كان.

صوت مكة

يؤكد الأديب طاهر زمخشري في مذكراته أن «شيوخ المقارئ المصرية عبد الباسط عبدالصمد، ومحمد صديق المنشاوي، وسعيد محمد نور انطلقت شهرتهم من مكة المكرمة أثناء قدومهم للحج والعمرة، ومنهم من رفضت الإذاعة المصرية إذاعة صوته لعدم اقتناعها بأدائه، وخلال زيارتهم للحرم المكي وأثناء مشاركاتهم بقوافل ومخيمات الحجاج تفجرت إبداعاتهم، وكانت إذاعة القرآن الكريم السعودية أول من قدمهم كمشاهير تلاوة للجمهور».

ويضيف «يطلق على شيخ القراء المصريين عبدالباسط عبدالصمد وهو واحد من أشهر القراء حول العالم «صوت مكة» بسبب صوته المتميز والفريد، ويذكر الباحثون والمؤرخون في مشاهير التلاوة أن الإقبال زاد بشكل كبير على شراء أجهزة الراديو والكاسيت لسماع صوته، وقد اشتهر من مكة المكرمة، بينما لقب المنشاوي بـ«صوت رمضان» لكثرة المقاهي والمحال التجارية التي تضع مكبرات صوت تجذب الناس بصوته».

ومن أبرز قصص احتباس الصوت ما حصل لشيخ عموم المقارئ المصرية عامر عثمان فقد اختير مستشاراً لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف، وأصيب باحتباس صوت صاحبه 7 سنوات، وقبل وفاته أطلق الله لسانه فعاد يرتل بأفضل من أدائه في السابق، وختم القرآن في 3 أيام، وبعد الختمة انتقل إلى جوار ربه ودفن في البقيع سنة 1988.

ارتقاء الصعب

ترصد القنوات الإعلامية المختلفة في الإعلام الجديد كل عام منابر الحرمين وما تقدمه من إبداع حتى كوّنت أرشيفاً يحفظ مقاطع إبداعية وصل فيها أئمة الحرمين إلى أعلى إحساس ومقام صوتي.

ومن بين أشهر تلك المقاطع وأكثرها انتشاراً ما سماه النقاد وخبراء المقامات الارتقاء الصعب بالأداء التعبيري والصنعة النغمية، متفقين على أن أئمة الحرمين يصلون إلى أعلى أداء صوتي في أدائهم على منابر الحرمين الشريفين، حيث يتنقلون في تلاواتهم بين المقامات بطريقة مذهلة، ومن بين أهم المقاطع وأكثرها انتشارا قراءة لإمام المسجد الحرام الشيخ علي جابر، والذي صنفته المواقع المتخصصة بأنه صاحب طاقات صوتية هائلة جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات الصوتية متفاعلاً مع آية الوعيد في قوله تعالى (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار).

ويقول عبدالإله القرافي وهو أحد الباحثين في تاريخ الحرمين «لا شك أن لقدسية المكان وشرف الزمان علاقة في تحسن الحالة المزاجية وتحفيز الملكة الإبداعية للقراء تساعدهم في إطلاق العنان لإبداعهم، كما أن الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة موقعان لتجمع العلماء وطلابهم، وإليهما تتوجه أنظار العالم الإسلامي بأسره، وعلى الأخص في المواسم الدينية، كما أن القادم إلى الحج أو العمرة أو الزيارة يكون في أعظم نسكه وروحانيته وهو ما يهيئه نفسياً ومزاجياً للإبداع، فكما أن لأصحاب الفنون الأخرى أطلالهم التي يقفون عليها ويتفاعلون معها، كذلك يرى أهل القراءات والإنشاد في منابر الحرمين المواقع التي تستنهض إبداعهم، فيتفاعلون معها إيجابا، لا سيما في الشهر الفضيل والمواسم الدينية الأخرى».

ويضيف «ينتظر المهتمون بفنون المقامات الصوتية ما تنتجه منابر الحرمين كل عام من إبداع في تلاوة القرآن الكريم، إذ يتأثر الأئمة والقراء بآيات القرآن الكريم أثناء تدبرها والغوص في معانيها، فيبدعون في المقامات الصوتية ارتقاء ونزولاً بحسب ما يواجه القارئ من آيات البشير والنذير والرحمة والعذاب، ومما يجدر الإشارة له أن بعض الأئمة والقراء لم ينشغلوا بتعلم فن المقامات الصوتية غير أن استحضارهم لآيات الله جعلهم مشاهير في هذا الفن بالفطرة».

الحنجرة الذهبة

بقيت مبررات احتباس أصوات بعض المقرئين مجرد تكهنات، دار معظمها حول أزمات وظروف تعرض لها قراء من أصحاب الأصوات الشجية، ومن بينهم الاحتباس الصوتي الذي تعرض له شيخ المقارئ المصرية محمد رفعت صاحب الصوت الجهوري البديع، حيث انحبس صوته عام 1942 واعتبر النقاد والمهتمين بتاريخ مشاهير التلاوة أن ما يعرف بـ«الفواق» أو«الزغطة» وهي أمراض تصيب الأوتار الصوتية سبب انحباس صوته وحرمان جمهوره من حنجرته الذهبية.

في عام 2012 تناقلت الصحف والقنوات الإعلامية عودة أمام الحرم النبوي عبدالباري الثبيتي للصلاة الجهرية بعد انقطاع 4 سنوات بعد أن توقف طوال تلك الفترة عن إمامة الناس في الفروض والصلاة الجهرية، واقتصر على إمامة المصلين في المسجد النبوي في الصلاة السرية بسبب عارض صحي بصوته، وفي مناسبة أخرى تناقل عدد من مستخدمي مواقع التواصل عودة إمام الحرم النبوي محمد أيوب للصلاة بالمسجد النبوي بعد انقطاع دام 13 عاماً.

يروي الباحث والمؤرخ الدكتور عبدالعزيز الضامر قصة شيخ القراءة أحمد سليمان السعدني الذي يعد من أشهر القراء المصريين، حيث لمع نجمه وعرفه الناس من خلال صوته بالإذاعات الأجنبية خلال الحرب العالمية الثانية.

ولمع نجم السعدني خلال الحرب، وقد لاحقته المخابرات البريطانية بتهمة تعامله وتأييده للمحور على حساب التحالف.

بدأت القصة من وصول بعثة من الإذاعة الألمانية إلى مصر عام 1937 من أجل أن تسجل بعض الأغاني والبرامج العربية لبثها من إذاعة برلين العربية، وقضت البعثة عاما سجلت فيه كثيرا من المواد المسموعة، ومن ضمنها 10 تسجيلات للشيخ السعدني.

وبنشوب الحرب عام 1939 استغلت إذاعة برلين الفرصة، وأذاعت تسجيلات الشيخ السعدني كل مساء من محطتها العربية، وتسبب هذا الأمر في أن أعلنت المخابرات البريطانية أن الشيخ من العلماء العرب المتعاونين مع المحور، وأن إذاعة صوته بعد الأخبار مباشرة جذب كثيرا من المستمعين لإذاعة برلين وربطتهم بسماع أخبارها التي تبثها باللغة العربية، فسمع بذلك رئيس الوزراء المصري حينها مصطفى النحاس باشا الذي أرسل استدعاء للشيخ السعدني وسأله عن حقيقة تعاونه مع برلين، فنفى وأخبره بحقيقة الأمر، لتتنافس بعدها الإذاعات الأجنبية وخصوصاً الإعلام الحربي منها على مشاهير التلاوة المصريين، وخصوصاً إذاعة لندن وباريس وبرلين لبث قراءاتها خلال افتتاحها برامجها باللغة العربية لجذب الجمهور.