كلما تقدمت بنا الحياة صغرت بأعيننا الأعمار، وأضحت مجرد أرقام بين قوسين لا أكثر. كنا نرى أبناء العشرين رجالًا لا يجدر بنا القرب منهم، وما إن بلغناها وجدناهم أطفالًا بأعراضٍ رجولية، وكنا نرى أبناء الثلاثين عامًا رجالًا تقوم على سواعدهم البلدان، وما إن وصلناها وجدناهم ما زالوا يعانون من آثار المراهقة، وكنا نرى أهل الأربعين كهول حكمة، ورجال عقل، وما إن بلغناها وجدناهم في طيش وعيش مر، وكنا نرى الخمسين مستقر الحياة ومستودع الأمل، وما إن وصلناها وجدناهم أجدادا بأحلام العشرينيات، ولقد ظننا أن الستين هي الثبات ومرحلة التمام والكمال، وما إن قربناها وجدنا الدورة تبدأ من جديد، فقلنا السبعين آخر المطاف، وما إن وصلناها وجدنا الأمل طريا غض الإهاب، وكل يوم لهم معركة جديدة للتشبث بالحياة، فقلنا إذن الثمانين هي الخاتمة، فما إن وصلناها أدركنا أننا ما زلنا نعيش في ذلك العام الذي احتجزنا حياتنا فيه قبل ستين سنة، وكأن العقل توقف فيه عن النمو، وأدركنا أننا لن نتغير، وأننا مرتهنون لسنة محددة من عمرنا لم نغادرها من ذلك اليوم الذي بلغناها فيه، تطورت خبراتنا وكبرت مدركاتنا وزادت معلوماتنا، ولكننا ظللنا حبيسي تلك السنة.

وعلى كلٍ فالإنسان منا يولد في سجن يضيق عليه بمرور الزمن، وفي كل مرحلة من مراحل حياته يدخل في سجن أضيق فأضيق، حتى يدخل سجن نفسه وروحه، وهو أضيق سجن يمكن للإنسان أن يدخله، ويظل فيه حبيسًا، أو أن ينتصر على قيوده وعقده ويخرج من زنزانة روحه، إلا أن الممض المزعج أنه مع بوادر خروجه، سيكون أول سؤال وجودي يطرحه على نفسه: هل سأعيش حرًا بقدر ما عشت حبيسًا؟! ولذلك وجد من يقول: إن الموت راحة، وهو ليس كذلك، فالموت حالة من الفراغ والتلاشي، والحيادية والصفرية، التي لا تعني أي شيء، لأن الحياة مقابل الموت قد تزكو فيها بعض الآلام وتطيب، فلا يوجد ألم محض، بل كل ألم وفيه فرح بوجه من الوجوه، وهذا ما لا يوجد في الموت، حالة الحياد التي لا ألم فيها ولا فرح، نعم هناك من يعيش هشاشة الحياة، وهم أولئك الناس الذين تخلت عنهم الحياة، فعاشوا وهم يخيل إليهم أن ألم الحياة أشد من ألم التلاشي والعدم أو الموت، وهذا أمر مفهوم نوعًا ما لأن تضافر المرض، والغربة، والفقد، والفقر، والجهل، ومآسي الحب وتناقضاته، تجعل الإنسان في مهب الريح، لا يدرك أي معنى للحياة غير البؤس، أضف إلى ذلك أن الموت لم يجربه أحد كتجربة كاملة، بمعنى أنه لا يوجد من مات ثم عاد من الموت ليروي لنا تجربة الموت مقارنة بتجربة الحياة، ودعك من هراءات العائدين من الموت، فما هم إلا في إطار واحد للحياة نزعت منهم حياة الحس والإحساس لبرهة من الزمن، وبقيت معهم حياة اللاحس، وتوهموا أنهم ماتوا وعادوا.

وثمة أمر يتناساه العائشون على ضفاف هشاشة الحياة، وهو أن هناك حاميًا ومحاميًا عن حياتهم يضفي بعض البهجة عليها، وهي الذاكرة، والتي تأتي إنسانيتها لتنقذهم من هذا كله بالأداة الأهم في حياة الإنسان وهي النسيان، ومن المفارقات أن هذا الذي يحمينا من تغول الحياة وتوحشها، قد يتمرد علينا أحيانًا، وكثيرا ما عانى البشر من انتقام الذاكرة.

الحياة واحدة والموت واحد، فاستمتعوا قبل الموت، ولن تندموا على الفعل بقدر ندمكم على عدم الفعل، وهذا القول سيجد معارضة شديدة من وعاظ الموت، ولكنها الحقيقة الحياتية الأولى للمتعة، المنضبطة بالأعراف الإنسانية. وحتى تكون حياتنا مغموسة بالهناء وراحة البال، ونستطيع مقاومة هشاشة الحياة بالفرح والبهجة: اجعل الندم في أبعد نقطة ممكنة منك، فما ضيع الأعمار مثل الندم على ما فات، ولهذا فلن يندم أبدًا من صان كرامته، في أي موقفٍ كان، ومع من كان، ولن يندم أبدًا من ساعد الناس وهيأ لهم سبيل عيش أو بداية طريق، ولن يندم أبدًا صاحب الكلمة المشجعة والمحفزة، ولن يندم أبدًا المتسامح والمتجاوز عن الإساءة، ولن تندم على حب نفسك ورعايتها وصيانتها بما لا يضر الآخرين، ولن تندم على الساعات الجميلة التي تقضيها منفردًا أو مع صحبة في متعة وفرحة وحبور، ولن تندم على فعل خير قط، ولن تندم على الحب أبدا.

ولكنك ستندم كثيرًا على التزهيد بالحياة وطولها، وذم الأمل ونعته بالغرور والاغترار، ونزع وهج الحياة من أعين كبار السن وصغاره لقرب الأجل، بسبب الإرث البشري الملتبس بقدسية الدين، وهذا لؤم، ولا يقل لؤمًا عن ذلك أولئك المزهدون بحب الناس وبذل المروءات لهم، وكذلك ستندم كثيرًا على عدم سحقك للمتطاول والمغرور على حسابك، وستندم أكثر إن فتحت بابك لدخول من تعرف أنهم حثالة البشر، وستندم أنك سمعت عن فلان ولم تسمع منه، فالندامة الكبرى أن تسلم أذنك لصديق أو قريب أو حبيب، وستندم أنك أخذت النصائح مسلّمات بدون التأمل فيها وفرزها، وملاحظ العلاقات بين الأحداث والناصح والمنصوح والمنصوح عنه، وستندم كثيرًا على إفساحك المجال لأشرس ما يأكل حياتك، وهو المقارنات بينك وبين من هم أفضل حالًا، وكذلك المنافسة لذات المنافسة، وليس إعلاءً لقيمة إنسانية عامة، وهما -المنافسة والمقارنة- تولدان الحقد والحسد اللذين يقتلان الروح والقلب بالتدريج، وستندم كثيرًا على حالة الفقر، العدو الأول مع الجهل والمرض لبني البشر، واعلم أن أفضل صديق لك على الإطلاق هو الأمان المالي والوفرة، وحتى تعرف دليل ذلك، فإن هناك أشخاصا صعبي المراس، غلاظ الأكباد، متضخمي القبح، ومع ذلك يظل الناس حولهم، ومعهم، يجاملونهم، ويراعون خواطرهم، ويمتدحون تفاهتهم، بسبب الثراء فقط، ولو كانوا فقراءً لم يتحملهم أحد قريبا كان أم بعيدا، ولانفض من حولهم السامر.

ستندم كثيرًا على الخوف لأنه يعمل على تقييدك والإبقاء على حياتك في سجنها، كُن مغامرًا بانضباط وعقل وعش لحظتك، وفز بالملذات، وتشارك بفرحك مع كل محب ومحبوب.

أخيرا، ستموت ألف مرة من الندم إذا عشت حياة بلا حب.