تعيش السعودية عصرًا زاهيًا لم تسبق أن مرت به من قبل، وكل يوم تزداد المنجزات التي تشق طريقها عبر تراكمات كبيرة من العادات والتقاليد المعيقة، التي جعلت عملية تقدم المجتمع بطيئة، مما أجبر صاحب القرار أن يخرج من الأسلوب التقليدي المعتاد في الإدارة، إلى أساليب جديدة غير معهودة؛ لإزالة هذه العوائق أمام تقدم المجتمع السعودي، ويرجع سبب هذه العوائق بالمقام الأول إلى ممانعة الفتوى الدينية، التي تقود المجتمع غالبًا، على الرغم من أن الفتوى وعلى مر العصور الإسلامية المختلفة مرنة ومحتملة الأوجه، إلا إن دخول حركات الإسلام السياسي على خط الإفتاء؛ سيج الفتوى بنظرية الأسماء والأحكام، التي خلقت أسماء الكفر والنفاق والفسوق، وقننت أوصافها وأحكامها، وبذلك حولت الفتيا إلى قضاء؛ لتعرقل عملية تقدم المجتمعات بالفتوى، من خلال خلق كم هائل من التفاصيل الصغيرة المحرمة والممنوعة، ناهيك عن كبيرها، لتضمن انسياق أكبر قدر ممكن من أفراد المجتمع خلف شعاراتها المزيفة، استبراءً لدينهم، كما هي طبيعة المجتمعات المحافظة، ومن هنا وجد صاحب القرار أن أهم الخطوات التي تأخر اتخاذها لعقود، هي كسر حاجز هذه الفتاوى المانعة والمعيقة، والتي تستند لأدلة ظنية، أو فهم بشري لا أكثر، فكانت التغيرات التي اتسم الكثير منها بالمفاجأة غير المتوقعة، وفقًا لنظرية التغيير بالصدمة، التي أثبتت جدواها وقوتها، والمطلوب في هذه اللحظة الزمنية المفصلية وبشكل ملح، هو إصلاح ديني يواكب العصر، ويواكب الحضارة ومنتجاتها، من الأفكار والقيم، وهو الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه أي إصلاح ديني منشود منا على المستوى الداخلي، والمستوى الخارجي، بحكم أن السعودية تمثل رمزية أولى، وقيمة كبرى لأحد أكبر الديانات في عالم اليوم، حيث إن جوهر الإصلاح الديني في الإسلام وفلسفته الأعمق يتمحور حول كيفية إيجاد السبل لغرس قيم الحضارة العالمية في مجتمع مسلم، يتعاطى بحرية مع الاقتصاد والسياسة والمعرفة، بلا وجل في مجتمع وداخل دولة لها رمزيتها العظمى دينيًا-كما أسلفت آنفًا-، تتعامل مع عالم مخيف يرى كل تصرف لا يرضيه على أنه خطاب كراهية وإرهاب.

ومسألة الإصلاح الديني أعني بها بصورة أولية تبديل الوضع الفقهي الراهن، والمعيق للتقدم الحضاري، والتعاطي مع الآخر بحرية فكرية ونفسية منزوعة الأدلجة، مع إلغاء تام لمشروعية احتكار فهم الدين، أو الوقوف سدًا منيعًا أمام أي محاولة تطرح قراءة مغايرة للقراءة السائدة، والفهم السائد، وهذا يعني أن مسألة الإصلاح الديني لابد أن يمر عبر نقد خطاب المؤسسة الدينية الرسمية والخطاب الموازي لخطابها، والمتفق معها في التوجه، لا أن تُكلَّف هذه المؤسسة بأداء تلك المهمة، خصوصًا بعد النجاح المبرم في فصل الخطاب الصحوي وتحييده وإنهاكه إلى درجة التلاشي.

والإصلاح الديني، بدوره يساهم بشكل كبير في تحفيز وتسريع هندسة المجتمع، ويكفل حزمة متكاملة من التحسينات، والتكميليات على حياة الفرد والمجتمع والدولة، فهو يساهم في نقل الولاء للماضي والمألوف وتقدسيه، إلى مستوى إمكانية المراجعة والنقد، ومحاولة تكييفه مع العصر، كما أنه يشجع على الاحتكاك بالعالم الخارجي، فالمجتمعات الأكثر تعرضًا للعالم الخارجي أكثر استعدادًا للمراجعة والتغيير والإصلاح من المجتمعات الأقل تعرضًا واحتكاكًا مع محيطها الخارجي الإقليمي والعالمي، وهو الأمر الذي عملت عليه الدولة بشكل رائع، ومن المنتظر أن يأتي الإصلاح الديني داعمًا لجهود الدولة في هذا الصدد، كما أن سعي الإصلاح الديني إلى تنشيط العلاقة بالخارج كشرط من شروط نجاحه، يقضي على الشعور بأن الأعداء يحاصرون الوطن وثقافة الوطن، وهذا الشعور المتوهم والمغلوط وجَّه الجهود وحفَّزها إلى ردّ ورفض الحوار والتلاقي الحضاري والتلاقح المعرفي مع الآخر، بشدة التمسك بكل ما في عهدتنا من موروثات وعادات وتقاليد، من غير تمييز بين غثّها وسمينها، والمطلوب أن ينتهي هذا الشعور المتوهم لدى السعودي، ويتحول إلى شعور رضا وقبول وترحيب، وفقًا لمبادئ المواطنة الصالحة، ولا ننسى أن الإصلاح الديني حينما يأخذ مساره الصحيح كإصلاح وليس تجديدًا لقديم الفكر وأوله -فيما بعد عصر النبوة-، فإنه يقود إلى الانعتاق من ربقة السكون، والجمود، والتقليد، كما أنه يقود إلى إعادة البناء الداخلي للتصورات والمفاهيم، وتفعيل آلية الاجتهاد، وخلق التصورات الصحيحة، وهو ما يعصم من التطرف والتطرف المضاد، ويخلق ذهنية حرة وشجاعة ومعتزة فخورة بما لديها لتأخذ لمجتمعها الخير والنافع والمفيد من خارجها.

وأشير إلى فكرة مهمة أعتقد أن هذا الوقت هو أوان طرحها ومناقشتها بعمق، وهي وجوب ألا تفسر تغيرات الصحويين وتحلل نفسياتهم، بشكل موثوق، ويجب التمهل الطويل، قبل العمل على مسألة التمهيد لغلق القلق من الصحوة وإدماج رموزها الصغيرة أو حتى الكبيرة في المرحلة الجديد، وهو أمر حتمي لا مناص منه، فليس كل القيادات الصحوية توقفت أو أوقفت، فهناك صفوف متوالية ومتعددة من القيادات الصحوية تعمل تحت السطح، ولا نعلم ماذا تخبئ لنا الأحداث من مفاجآت ومتغيرات.

كما أشير إلى فكرة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن الدولة كبناء تنظيمي، وكيان اعتباري، لا علاقة لها بتطبيق فتاوى المنع أو الفسح، وإنما عملها الأهم هو وضع الأنظمة الرادعة للتجاوزات، والمنظمة لحياة الناس، وتطبيق هذه الأنظمة والقوانين، ويترك أمر التدين والتورع عن اقتراف المنهيات الشرعية، أو فعل المأمورات، لتدين الأفراد، أو حتى تدين المجتمع بأغلبيته، مالم يؤثر هذا التدين على السلم الاجتماعي، والجانب الأمني للوطن، ولذلك سيكون فسح الممنوع، بشكل مقنن وداخل إطار نظام وقانون محكم، عمل مهم ومكاسبه كبيرة، مقارنة بمضار المنع الحاصل اليوم، ويجب ألا تأخذنا الحماسة والعاطفة في إقرار ذلك، فالقضية سهلة وبسيطة حتى من الناحية الشرعية.

أخيرًا، من المتوقع بسبب هذا الانفتاح، أن يقف البعض حجر عثرة أمام رافعة التغيير في سبيل أخذ تسارعها المطلوب، إذا استغلوا هذا الانفتاح بطريقة سلبية، وذلك بإيجاد الثغرات في الأنظمة والقوانين، لانتهاكها، ولهذا فمن المهم العمل على تسريع الجهود وتكثيفها في بعض الحلول قبل بعض، وجعلها أولوية قصوى، وإعادة هندسة المجتمع، وإعادة تأهيله، لبناء وتعزيز النواحي الإيجابية، وعلى رأسها بناء المواطنة الصالحة.