لعب التليفزيون في الحقيقة الدور الأساسي في التوحيد الشعوري- السياسي لمجتمعات أكبر وأكثر تطورًا بكثير (فيما بينته الدراسات الأولى بهذا الصدد في خمسينيات القرن العشرين، والتي أجرتها مجموعات البحث في جامعتي بيل وساوث كارولينا بالولايات المتحدة، تحت قيادة مؤسس «المدرسة» الأمريكية، بيتريم ساروكين عن دور التليفزيون- في بداية تطويره والتوسع في استخدامه- في توحيد «الأمة» الأمريكية، وإعطائها الوعي بخصوصياتها وسط «أمم» الغرب، والعالم. وإن كانت ثقافة التليفزيون الشعبية الجديدة، قد استوعبت النوعين معًا من الثقافة (الشعبية الموروثة القديمة والراقية العالمة) لخدمة أغراضها التوحيدية والتأثيرية/ التثقيفية/ الترفيهية على حد سواء.

ومن الواضح أن هذه الحقائق (البديهيات؟!) حاضرة في أذهان مخططي البرامج «الدرامية» في التليفزيونات العربية، خصوصًا في رمضان!!

رمضان تقليديًا هو شهر «السهر»، أو أنه أصبح كذلك مع اتساع فئات «العموم» الطبقة الوسطى، وما يقترب منها بكل شرائحها في المدن والريف على السواء وزيادة إمكاناتها، ومع تزايد كل من «نشاطاتها» وتنوعها، وتزايد أهمية استيعابها في إطار «ثقافة التوحيد» الوطني أو القومي، ومن البديهي أن يلعب «التليفزيون» في «السهرة» الدور الرئيسي و«الحكاية» الدرامية -أو شبه الدرامية- المصورة، لا مناص من أن تحتل مكانة رئيسية (المكانة الرئيسية) في هذا الدور، ففي الحكاية الدرامية المصورة نتجسد (أو نتوهم أننا نتجسد)، نحن أو أسلافنا أو نظراؤنا ونظراؤهم، لكن في السياق وفي التكوين الذي تهدف المؤسسة إلى أن ترسخه في وعي (في لا وعي) جمهور العموم الساهرين، متشوقين للترفيه، ولا بأس من جرعة تثقيف -بصرف النظر عن دلالة أصل الكلمة «ثقافة»، وحضور تلك الدلالة أو عدم حضورها، ومستسلمين لما ستقدمه لهم المؤسسة من ترفيه و (أو) تثقيف، استسلامًا ينبع أساسًا من موافقتهم، مقدمًا على رؤية المؤسسة ودورها.. أنواع الموضوعات تحدد الأنواع الفنية.

أنواع الموضوعات تقسم الدراما التليفزيونية إلى الدينية والتاريخية -وقد يمتزج الدين والتاريخ في نوع مستقل- والأسطورية الخيالية (التراثية: كألف ليلة وليلة أو حكايات جحا... إلخ) والاجتماعية العصرية. في منتصف السبعينيات كان الموضوع الديني غالبًا، ومن زاوية نظر شبه شعبية لم يبال صاحبها و«مقررها» بمقدار ما تحتويه من خرافة، أو «إسرائيليات» أو تصوّرات تنتهي -سياسيًا وثقافيًا- لاستثارة أو تجديد أنواع من الصراعات والتوجهات «الإستراتيجية- الفكرية» تعود إلى العصور الوسطى. الموضوع «الاجتماعي» كان يطرح أساسًا من منظور أخلاقي، وتقدم صور الفساد أو الاستغلال.. إلخ، باعتبارها نوعًا من التسيب الخلقي أو «الشر» المطلق لا يحتاج إلا لقدر من التأديب والتهذيب والاستعانة بالصالحين الأولياء.

قبل ختام السبعينيات يقترب الموضوع الديني -وهو لايزال سائدًا- من التاريخ المعتمد من ناحية (مسلسل محمد رسول الله، المأخوذ عن الكتاب المشهور لعبد الحميد جودة السحار)، الذي يحكي -في بناء شبه ملحمي- قصة قريش في مكة قبل الوصول إلى بني هاشم، ثم إلى بني عبد المطلب، فمولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فنشأته (من تصوير محيطه فقط بالطبع)، فشبابه إلى المبعث، ثم الهجرة والغزوات والفتح. منذ بداية الثمانينيات -أو بعدها بقليل- نلمس تحولًا تدريجيًا وقويًا سواء في تناول الموضوع الديني، أو التاريخي ومزجهما- أو في الرؤية «الاجتماعية- السياسية القومية»، التي تسعى إلى السيطرة على هذا التناول، أو في زيادة الاهتمام بالموضوع الاجتماعي مع مزجه في بعض الأحيان ببعد تاريخي، بل إن «التاريخ» الحديث- الأب المباشر للتاريخ الراهن الاجتماعي السياسي يشغل حيزًا متزايدًا من الدراما التليفزيونية، (ويلاحظ في هذا الصدد أن اختيار التوقيت اليومي للبث في أوقات المشاهدة الكثيفة بعد السادسة مساء، وحتى العاشرة تقريبًا يتناسب طرديًا مع ازدياد العناية بالبعد السياسي- الوطني الاجتماعي.

فالموضوع الديني يعمد إلى التاريخ «المعتمد» من: الخلفاء الراشدين إلى أئمة علوم التفسير والتاريخ (الطبري- أبو جرير مثلاً)، حتى عمر ابن عبدالعزيز والرشيد، وحتى ابن حزم (في نهاية التسعينيات)، في مسلسلات تحمل عناوينها تلك الأسماء بالتحديد، وإلى «القضاة» في مسلسل «القضاء في الإسلام»، هنا في الغالبية العظمى من هذه المسلسلات الدرامية التليفزيونية الموضوع ذاته الذي يمتزج فيه التاريخ بالدين، محاولات-ناجحة في معظمها- لتأكيد معنى السعي إلى توحيد الأمة، ودفعها لارتياد آفاق السماحة وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، وتأكيد معنى تبغيض الفرقة والاقتتال والتمزّق، (مع ميول موروثة يصعب التخلص منها بسهولة، تنزع إلى الزهو بالذات القومية وتمجيدها وتجميلها)، وتمجيد البطولة الفردية -الحربية أساسًا- كما في فتح الأندلس أو (طارق ابن زياد وموسى بن نصير، أو في عمرو بن العاص، وفي عبدالرحمن الداخل «صقر قريش»... إلخ). أما الموضوع الخيالي -المستمد من التراث الشعبي ألف ليلة وليلة خصوصًا، وقد انفردت بالساحة نحو أحد عشر «رمضانًا»... قبل 1982، فقد تحولت معالجتها، في السبعينيات انتزعت من «ألف ليلة» خاصيتها الفريدة، خاصية قدرتها على رسم لوحة شديدة الواقعية (تقترب من: الطبيعية) للخلفية الاجتماعية للأحداث الخاصة.

غير أن معنى الدلالة الاجتماعية لا يتطابق أبداً مع المعنى الذي ذهب إليه أصحاب التيار الواقعي الاجتماعي- منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى ستينيات القرن العشرين، وإنما يتجه وجهة الواقعية النقدية: واقعية نقد النسيج الاجتماعي بأسره: البشر ونماذجهم من كل الفئات وعلاقاتهم الإنسانية (العائلية أو العملية... إلخ).

ولعل هذا هو ما يميز الدراما التلفزيونية الاجتماعية (التاريخية أو المعاصرة) في الثمانينيات. انتزع هذا النوع (الاجتماعي أو السياسي- التاريخي أو العصري)، مركز الاهتمام بالتدريج مع توغل الثمانينيات والتسعينيات رغم أن بوادره لم تنقطع من قبل لماذا يتركز «بث» هذا كله، وأفضل ما فيه من وجهة نظر كل من المؤسسة والعموم والنقاد في رمضان؟

ما علاقة «السهر» الترفيهي- التثقيفي في رمضان بالفرجة ساعات عدة كل مساء من أماسي الشهر الفضيل، على حكاية العلاقات العائلية- الطبقية بين أسرتي وسلالتي باشا فلاح زراعي وباشا رأسمالي صناعي، وبينهما معًا وبين «الطبقة العاملة» الخاصة بكل منهما ثم بأجيال سلالتيهما مثل ليالي الحلمية في ثلاث دفعات لسنوات.. أو بالفرجة على علاقات مشابهة بين فئات -وأجيال- أولاد البلد من التجار والشطار وأشباههم والمتعلمين، رجالاً ونساء عبر ثلاث دفعات مستورة أخرى (بوابة الحلواني).. أو استعراض حكاية غزوة التتار ومقاومتها، والصليبيين في السياق، بدءًا من جلال الدين منكبرتي الخوارزمي في وادي السند وسفوح جبال الأفغان، حتى بيبرس وقطز في مصر، مرورًا طبعًا بشيراز إيران وجبال الأكراد وبغداد العراق ودمشق الشام وعالية لبنان... إلخ... إلخ.

ربما كانت العلاقة قائمة في الرغبة -الواعية وغير الواعية معًا- الكامنة لدى كل من العموم والمؤسسة معا في الاستفادة من «الوقت» المتاح في السهر الطويل للترفيه والتثقيف، وتأكيد الإحساس بالتلاحم- الوحدة، والمشاركة معًا في «الفرجة» والاختلاف حول معنى فرجة واحدة ودلالاتها؟!

2000*

* كاتب ومترجم وناقد مسرحي مصري (1939- 2008)