يلاحظ قارئ التاريخ أنه من بداية انتشار القبورية على يد الباطنية أولاً ثم تلقفها عنهم الصوفية، والعالم الإسلامي أصبح نهباً لأي قوة غاشمة تريد اجتياحه ففي عام 492هـ وهو زمن الحكم الفاطمي في مصر والصراع السلجوقي في الشام، استطاع الصليبيون اجتياح قلب العالم الإسلامي من إنطاكيا وحتى الرملة ومن سواحل الشام حتى مدينة الرها في أقل من عام ودون مصاعب تذكر، ومع بداية القرن السادس الهجري استطاع المغول السيطرة على المشرق الإسلامي كله حتى أسقطوا عاصمة الخلافة عام 656 هـ ولولا أن الله تعالى أنقذ الأمة بوعي الفقهاء والمحدثين في مصر، لربما اجتاح المغول البلاد حتى الوصول إلى المحيط الأطلسي. وفي مطلع العصر الحديث اجتاح الاحتلال الإنجليزي والفرنسي كامل العالم الإسلامي باستثناء السعودية وشمال اليمن دون مقاومة تذكر.

هذا الاقتران بين الأمرين يدلك على أن شيوع بِدَع القبورية يُشَكِّل عاملاً قوياً من عوامل انهزام العالم الإسلامي وخضوعه.

وهذا الأمر عرفه المستعمرون، فعملوا على دعم القبورية ممثلة في الطُّرق الصوفية، ويكاد يكون هذا الأمر قد أصبح من المعلوم لدى جميع الباحثين لذلك لن نُطيل الحديث فيه، لكننا نُشير لمن يرغب التزود بعدد من الحقائق في ذلك إلى كتاب «التصوف الإسلامي» لزكي مبارك، وكتاب «الصوفية والوجه الآخر» للدكتور محمد جميل غازي ليصل إلى نتيجة هي أن القبورية كانت ذراعاً عظيم النفع والتأثير من أذرعة ما يُسمى بالاستعمار.

وفي وقتنا الراهن نجد أن الصفويين الحاكمين في إيران يبنون إستراتيجيتهم التوسعية على هذه الحقيقة، ولذلك فإن دولة الملالي هناك تحارب الطرق الصوفية الشيعية ليس لأن الملالي لا تؤمن بشرك القبور، وإنما لأن الصوفيين الشيعة يؤمنون بشيخ الطريقة ولا يؤمنون بالولي الفقيه، فمرجعية الصوفي الشيعي هي إلى شيخ الطريقة وليست للفقهاء وهذا يمثل إضعافاً لسلطتها، لذلك يحدث بين الفينة والأخرى اعتداءات من الحرس الثوري وأجهزة الأمن على الخانقاءت الصوفية والتي تسمى عند الصوفية العرب الزوايا، لذلك وهذا أمر مهم أن نعرفه: أن أكثر مشايخ الطرق الصوفية الإيرانيين لاجئون في أوروبا بسبب خوفهم من النظام الصفوي الذي يفتي بكفرهم، فالحر العاملي [ت 1104] مؤسس نظرية الولي الفقيه له رسالة بعنوان:«التحفة الإثني عشرية في كفر الصوفية» وهناك فتوى رسمية معاصرة لآيتهم فاضل النكراني بتحريم حضور مجالس الذكر الصوفية.

ومع هذا الحذر الشديد من انتشار التصوف الشيعي داخل إيران، إلا أن الإيرانيين يجدون أن بوابتهم التوسعية في العالم الإسلامي لن تكون إلا عن طريق القبوريين، وكما أن القبورية دخلت على أهل السنة من طريق الشيعة الباطنية، فالأمر في هذا التاريخ ينعكس ليدخل التشيع الباطني من طريق الصوفية.

فما إن سقط الرئيس حسني مبارك - رحمه الله -، وكان بالرغم من كل شيء جبلاً في مواجهة المشروع الإيراني حتى شكلت اثنتا عشرة طريقة صوفية وفداً إلى إيران بالرغم من عدم وجود علاقات طبيعية بين البلدين، برئاسة شيخ الطريقة العزمية علاء أبو العزايم الذي أكد في أكثر من لقاء له أن العلاقة بإيران تسهم في الحد من نفوذ الاتجاه السلفي في مصر. والحقيقة أن الطرق الصوفية كانت تُخترق بشدة من الإيرانيين بعد ثورة 25 يناير بقصد اختراق مصر دينياً وسياسياً وعسكرياً، وقد شهد بهذا الاختراق محمد الشهاوي شيخ الطريقة الشهاوية البرهامية، وهو من الصوفية المناهضين للتقارب مع إيران، فأكد أن الطرق الصوفية تم اختراقها بعد الثورة، وأن كثيراً من مشايخ الطرق أصبحوا يترددون على إيران، وأن بعضاً منهم تم اجتذابهم بزواج المتعة، وبالجملة فحالات التشيع التي تحدث في مصر، رغم قلتها، ومبالغة الشيعة في تقدير أعدادها، تكاد تكون كلها من أبناء الطرق الصوفية.

هذا في مصر، والأمر كذلك في إفريقيا، فقد اعتنى ملالي إيران بنشر التشيع باختراق الطرق الصوفية قبل الثورة الإيرانية بعشر سنوات، وكان من أوائل دُعاتهم رجال أعمال لبنانيون استغلوا أموالهم في دعم الطرق الصوفية، ومن خلالها تم إنشاء المدارس الإيرانية واستقطاب أبناء الطُرُقيين للدراسة في إيران.

ونشاط الإيرانيين والزيارات المتبادلة بينهم وبين مشايخ كثير من الطرق الصوفية لا تخطئها العين في جميع إفريقيا، وكل ذلك بالرغم من المشاكل السياسية بين إيران وعدد من الدول الإفريقية بسبب إنشائها قوات مسلحة في بعض الدول الإفريقية.

ولم يقتصر دعم القبورية على إيران، بل إن الأوروبيين والأمريكيين اليوم شديدو الدعم للفكر القبوري عبر الطرق الصوفية في العالم، وكما قلنا سابقاً بأن الإيرانيين وأعوانهم يبررون نشاطهم بمجابهة المد السلفي، فكذلك يفعل الأمريكيون وأعوانهم، فمراكز الأبحاث الأمريكية تؤكد على ضرورة دعم الطرق الصوفية في مواجهة الأصولية الإسلامية، وهي تقارير باتت مشهورة فلا نحتاج لإثقال المقال بها، لكننا نُحيل من يطلبها من القراء إلى كتاب:«حين يكون العم سام ناسكاً» للدكتور عبدالله الحَسَّاب، وهو كتاب بالغ الأهمية في وضع الشواهد لكشف الإستراتيجية الأمريكية في التعامل مع التوجهات الدينية في الشرق الأوسط.

وهذه الإستراتيجيات الأمريكية والتي تتحدث عنها المراكز البحثية لم تعد مجرد دراسات لا أثر لها في الواقع؛ بل هي دراسات تبعها نشاط كبير على الأرض عبر إنشاء صندوق لدعم بناء الأضرحة في العالم الإسلامي، أعلنت عنه وزارة الخارجية الأمريكية في موقعها، وعبر علاقات خاصة بين السفارات الأمريكية ومشايخ الطرق الصوفية ومؤتمرات ولقاءات لزعماء الطرق وسدنة الأضرحة مع السياسيين الأمريكيين، وهي أنشطة غزيرة تم رصد قليل منها، ولكنه قليل يدل على الكثير، ومن البحوث التي اعتنت برصد هذه التحركات، بحث بعنوان: «العبور الأمريكي عبر الزاوية الصوفية» نشرته مجلة البيان في عددها 313 لسنة 1434.

وبالطبع ليس المراد من هذا الدعم القضاء على التطرف كما يزعمون، إذ ثبت أن التطرف صناعة أمريكية إيرانية لضرب السنة وتمكين إيران والمشاريع الصهيونية في المنطقة، وهذا لم يعد استنتاجات مجردة، فالجميع يعرف تصريحات الرئيس السابق دونالد ترمب، وانكشاف بريد هيلاري كلينتون، وغير ذلك من الشواهد، وقد جمع كثيراً من الأدلة على ارتباط جماعات التكفير بإيران الباحث العراقي محمد حازم السويدي في كتابه: «الجماعات التكفيرية وإيران».

وإنما المراد من دعم القبورية سياسي محض، وهو تدجين المسلمين بحيث يكونون قابلين لأي عملية تغيير فكري يتوافق مع سياسة الولايات المتحدة في نشر القيم الأمريكية؛ أو تغيير سياسي بحيث لا تكون الشعوب المسلمة متأثرة بالمنهج السلفي الذي يدعو لمقاومة المحتل الكافر، وهم أي: الأمريكان يعزون ما وجدوه من مقاومة عراقية لتأثر السنة بالإسلام الصحيح الخالي من البدع، لذلك عمدوا إلى استئصالهم على يد الجيش الأمريكي وعلى يد الإيرانيين بحجة الداعشية، ولا زالت عملية الاستئصال مستمرة وآخرها ما عُرِف بأحداث جرف الصخر.

وهُنا لا نقرر أن الغرب أو إيران نجحوا نجاحاً تاماً في جعل القبورية ذراعاً لهم، فالمتصوفة ليسوا على مشرب واحد، لكن الحقيقة أنهم حققوا عدة نجاحات مهمة وكبيرة؛ لذلك أستغرب تماهي بعض العرب مع هذا المشروع والتعاون معه؛ بل العمل ضمنه تحت تصور أنه مشروع لمحاربة التطرف، والحقيقة أنه مشروع لإقامة تطرف من نوع آخر يجعل الولاء ليس للوطن وإنما لشيخ الطريقة الذي لا يقل خطراً عن الإخوان الذين يجعلون الولاء للجماعة دون الوطن.

ولهذا فإنه في حال نجاح هذا المشروع فلن تجد الأوطان من يدافع عنها في أي مشروع اجتياح صهيوني أو إيراني أو أمريكي، لأن الشعار الغالب سيكون هو الشعار الذي رفعه بعض الصوفية القبوريين أثناء الاحتلال الإنجليزي لجنوب اليمن ومصر وغيرها من البلاد العربية وهو قولهم: إذا سلط الله على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاومه أو يتأفف منه لأن ذلك اعتراض على إرادة الله؛ كما نقله عمر فروخ رحمه الله عنهم.

إذن دعم القبورية الذي نراه اليوم عبر مؤسسات سياسية وإعلامية ومالية وثقافية في كل العالم الإسلامي، هو عبارة عن مشروع سياسي يستفيد منه داعموه المعاصرون كما استفاد منه داعموه الأوائل، والاختلاف بين الأمس واليوم أن داعمه اليوم يصب في مشاريع استعمارية أجنبية معادية للإسلام وأوطان المسلمين.

ولا شك أن ضمن هذا المشروع الحملات الحالية من خارج المملكة وخصوصاً من عملاء إيران لإحياء القبور وإعادة بنائها في البقيع ومكة، والمؤسف أن بعض المغفلين وهم قلائل جداً من المنتسبين للتصوف أو التشيع من السعوديين، يشاركون في هذه الدعوات عبر تويتر وفيس بوك بأسماء مستعارة، وهؤلاء بذور لنباتات سيئة يجب معالجتها.