وهو يتأمل الجنون، أشار إلى أنَّ المجانين- منذ عهد الإغريق- كانوا حاضرين دومًا، وصوتهم مسموعا، لكن بداية من القرن السابع عشر عُزلوا؛ لأنهم غير صالحين.

مقاربته للمشهد كانت من خلال مُشرِفات المشفى، إذ يُعبّرنَ عن تصور عقلاني وضعه المجتمع آنذاك.

ثم أشار إلى القطيعة المعرفية بين العصور؛ إذ أصبح الجنونُ موضوعًا للدراسة العلمية، فتطورَ -بصفته مادة علمية- بتطور العلم؛ لأنّنا قطعنا العلاقة مع التصور البسيط لظاهرة (الجنون).

ميشيل فوكو - أحد أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين - اعتمد على مفهوم الإزاحة، وهذه الإزاحة تُنتج إيقافًا للمتحرك؛ فيتحول إلى ظاهرة علمية، ومن ثم تُرصد حركته، فتدوّن نتائجها.

وفي لحظة الإيقاف، فإنَّ الواقع يتفاعل معها تَغيّرا. ومن هنا كان الدليل على أنَّ المجنون مجنونٌ، هو هذه الإزاحة. لهذا اهتم فوكو بتشريح الخطاب الذي يقمع ليُغير الواقع. في اللحظات التاريخية الغربية التي عناها، كان للثقافة العربية حياة موازية ومتقاطعة مع التاريخ الغربي ما قبل عزل المجانين، ولم تتصل ثقافة المؤسسات العازلة إلا في عصر الاستعمار وما بعده، لهذا كيف يمكن تأمل طبيعة التصور العقلاني في الثقافة العربية آنذاك، مما يجعلنا نتصور الموقف من الجنون؟

هل للثقافة العربية إزاحاتها المتسقة مع تلك العصور الما قبل؟ ومن ثم تصور عقلاني يوازي طبيعة الإزاحات والإبعاد والرفض، ومن ثمَّ إنتاج واقعٍ يتسق مع التاريخ العربي؟ وهل ثمة استجابة واقعية للطرح العقلاني؟ أعني هل تشكلت ظاهرة الجنون من خلال الطرح العقلاني لفلاسفة العرب ومتكلميهم من جهة، وعلماء الدين من جهة أخرى؟ فإن كان فما طبيعتها وغايتها؟

والفرق الذي يهمنا -هنا- بين الفلاسفة الإسلاميين ومتكلميهم، هو أنَّ الفلاسفة يُعالجون مسألة العقل كجوهر، بينما المتكلمون بصفته أداة لاكتساب العلم، والقيام بما كُلِّف به.

وهذا التفريق -بصفته يوضح مكونا أساسيًا للثقافة العربية وهو مآلات التعقل الديني- يحيلني لما قاله الرازي من أنَّ العقل من قبيل العلوم؛ ودليله أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، «لاستحالة أن يوجد عاقل لا يعلم شيئا البتة، أو عالم بجميع الأشياء ولا يكون عاقلا، وليس هو علمًا بالمحسوسات لحصوله البهائم والمجانين».

إذن الرازي يجعل العقل هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات. وهنا نخلص إلى إزاحات عملية، فنلحظ في خطاب الرازي أنَّ المجانين قرناء البهائم؛ وذلك حين عَرّف العقل بتعريفٍ من لوازمه أن يجعل العقل قرين العلم، ومن ثم يعزل (المجانين) عن الواقع/‏العلم بالشيء.

والعزل هنا غاياته عملية، إذ هو مرتبط بالتكليف الديني، لكنَّ تلك الغايات هي ما أنشأ الخطاب المـُهَمِش، ومن ثمَّ صناعة واقع يرفع من مفهوم الذات وما تَعْرِفه، وإلغاء الآخر.

لكن إلغاء الآخر (المجنون) هنا، هل يشمل كتم صوته؟ لا، فذلك العصر كان لهم صوتهم المسموع، إلا أنَّه لا يجاوز الأحاسيس، وأهمها السماع، والسماع أيضا مرتبط بمفهوم الوحي؛ لهذا فالعرب المَكّيون أول ما سمعوا محمدًا يتحدث قالوا: مجنون؛ فقال القرآن: (وما صاحبكم بمجنون). ومن هنا جاءت مقولةُ متكلّمي المعتزلة في لحظةِ ذروةٍ عقلانية: «العقل قبل ورود السمع». وفي خلاف المعتزلة والأشاعرة هنا ما هو مرتبط بالمجانين، أعني أنَّ الأشاعرة لما قالوا خلافا للمعتزلة بأنَّ (الحكم) على الشيء(قبيح/‏حسن)، مغاير لـ(معرفة) كونه (قبيح/‏حسن). فإنَّ في قولهم هذا مساحة عاشها المجانين -الذين اختُصروا في مقولة المجاذيب، أو الدراويش ونحو ذلك- أي أنَّ الفجوة اليقينية بين الحكم والمعرفة، استُخدِم مجانين/‏دراويش لسدّها من قِبل بعض العامة، وذاك إكمال لحصرهم في مجال السماع/‏الوحي. والفجوة لم تأتِ إلا لأنَّ الغاية-عندهم- هي أهمية الاستعانة بقوةٍ خارجية لإحضار معنى محدد في الذهن.

ويجدر بي أن أتوقفَ عند الغزّالي؛ لأنّه أشار إلى الحيلة التي تُشبه الحيلة العلمية المشار إليها من قِبل فوكو؛ إذ نرى الغزالي- في معيار العلم- يُنزل حركة الاستدلال من السماء إلى الأرض، أي أنّه ينطلق من الحس والضروريات الجِبلّيِّة إلى تأكيد المعقولات المجردة؛ وتلك هي حيلة الغزالي في التضييق على حاكمية الحس، أي كأنَّ الغزالي يُطالب بكبح جماح (حاكمية الحس المُضللة/‏حاكمية المجانين) ليتمكن الفرد من فهم وتصديق (حاكمية العقل/‏حاكمية العقلاء)، وهنا نقع في السخرية الواقعية، حين تُشير إلى بروز الحركة التطهيرية المسيحية في القرن التاسع عشر التي كبحت كل مظاهر السلوكيات الجنسية، فتمكنّا من فهم السلوكيات الجنسية.

ووجه الشبه مع الفوكوية من حيث إن العلوم على الرغم من اختلافها تخضع للقوانين -غير الحسية- ذاتها، وهي التي تربط بين العلوم. وطريقة كشفها يأتي بطريق الإقصاء.

والغزالي أقصى حاكمية المحسوس -من خلال استخدامه- المفضية للوهم/‏الجنون؛ ليجعل المتلقي بنفسه يأخذ بالمعقولات المفضية للعقلانية. فتأتي السخريةُ لتتحدث عن التعرض للخبرة بشكل مباشر، أي إزالة الحدود والفوارق وكل ما هو ممنوع، والتخلي عن القواعد المؤطرة للقيود والإقصاءات فيأتي السؤال: أين العلم من كل هذا؟ هل لنا أن نصل -وقتها- إلى معرفة أخرى؟ هل كان لنا أن نتوصل إلى الخبرة التي تعلمناها دون هذه التجربة؟ هل المعرفة التي توصلنا إليها قبل التجربة تظل صالحة بعده؟ وهذه تحيلني للخبرة والتجربة المكانية بين البدوي والحضري، في التعاطي مع وجود الجن، (والجن من جذر الجنون: جن الشيء إذا استتر)؛ إذ المكان لديهما يُوجِّه مصادرَ المعرفة؛ فحين ينكر الحضري مرويات الجن، ويجعل التكذيب هو الأصل، والتصديق يحتاج لألف دليلٍ ودليل، فمصدره في هذا التكذيب هو (العقل)، وهذا مرتبط بتاريخ الذات العاقلة التي تطرد سواها/‏المجنون، بعد تعريف معنى العقل!، أما البدوي فحين يعتقد بتأسيس المرويات المتجاوزة للعقل، فإنَّ المصدرَ المعرفي -الحس- جعله يحلف بأغلظ الأيمان أنَّه رأى الجن.

وكأن السور والحائط -الذي يميز الحاضرة- كالعقل الذي يُقيّد التلقي، بمبادئِه، وهو ما يذكرنا بالرؤية العقلية الواردة في المقال لطرد المجانين.