في إطار جهودها المتواصلة لتعزيز بيئة العمل، وضمان تمتع العمال بحقوقهم التي تكفلها القوانين والتشريعات الدولية، شهدت أروقة الأمم المتحدة خلال الأيام الماضية ورشة عمل نظمها الوفد السعودي في المنظمة الدولية، تناولت تعزيز تنقل العمالة، وحماية حقوق المهاجرين، وتعريف العالم بالإصلاحات والإنجازات الحثيثة التي نفذتها المملكة في هذا الشأن، ومساعيها المتواصلة لحماية حقوق العمالة المهاجرة بما يعزّز مشاركتها الفاعلة ويضمن حصولها على شروط عمل مجزية وعادلة. الحدث اكتسب أهمية كبيرة لأنه أتى في وقت يتعاظم فيه الاهتمام العالمي بحقوق العمال، وما تم طرحه في الورشة من حقائق وجد الإشادة والتقدير من الوفود التي حضرت المناقشات، وأبدت إعجابها بالجهود السعودية المتواصلة لتطوير قوانينها، كما سلط الضوء على الإنجازات الكبيرة التي تحققت، والدور الكبير الذي تقوم به كي تتناغم قوانينها مع منظمات المجتمع الدولي، وتحديث المنظومة التشريعية، وهو ما تجلى في إصدار 60 قرارًا إصلاحيًا خلال السنوات القليلة الماضية تتعلق بحقوق الإنسان، وهو ما يؤكد الجدية التي تتعامل بها الرياض مع هذا الملف. ونظرة سريعة إلى الوراء تظهر أن المملكة اهتمت منذ توحيدها على يد المغفور له -بإذن الله- الملك عبدالعزيز آل سعود، بضمان العدالة في التعامل بين صاحب العمل والعمال، وحفظ حقوق الطرفين. إلا أن هذا الاهتمام تعاظم خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا منذ إقرار رؤية 2030 التي هدفت لترقية المنظومة القانونية لتواكب الاتفاقيات الجديدة التي تم التوقيع عليها، وضمان جاذبية سوق العمل المحلي وقدرتها على استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية وتفعيل الاستثمار. التعديلات التي تمت على صعيد العمالة الوافدة كانت أكبر أثرًا وشمولية، وتضمنت تعديل نظام الكفالة لإضفاء المزيد من الشفافية وتحسين العلاقة التعاقدية، وتعزيز الممارسات الأخلاقية العادلة للعمل، وحفظ حقوق العمالة وترقية الخدمات المقدمة لهم. فقد خضع نظام الكفالة لتعديلات جذرية متعددة أتاحت حرية التنقل للعمال وفق اشتراطات معينة وضوابط محددة تقضي على التعنت الذي كان يمارسه البعض، وفي ذات الوقت تضمن حقوق الطرفين، حيث أصبح بإمكان العامل الوافد أن يبحث عن فرصة عمل أفضل إذا امتنع كفيله عن تسديد رواتبه لثلاثة أشهر، أو أخفق في تجديد إقامته ورخصة عمله، أو لم يكن هناك عقد ملزم بين الطرفين، وغير ذلك من الحالات والظروف التي أوضحها النظام. ولأن العمالة المنزلية تمثل الشريحة الأكثر تضررًا في معظم دول العالم، فقد اهتمت التعديلات التي أجرتها المملكة على منظومتها التشريعية بإنصافها، وذلك عبر حوكمة وتنظيم كافة مراحل عملية الاستقدام، منذ استخراج التأشيرات والتعاقد والدفع الإلكتروني، وكل تلك الإجراءات يمكن أن تتم بمنتهى السهولة واليسر، عبر وسائط رقمية حديثة. كما قامت السلطات بتأسيس مراكز للاتصال الموحد تقدم خدماتها للعمالة الوافدة بثماني لغات، وذلك لضمان حصول العمالة المهاجرة على حقوقها كاملة وعدم تعرضها للظلم. وتتمثل مهمة تلك المراكز في تلقي الشكاوى وحل الخلافات التي قد تنشأ بين العامل وصاحب العمل، ومن مهام اللجنة إنصاف العامل حتى ولو كان قد قام بالتوقيع على شروط مجحفة في حقه دون إدراك لحقيقة ما وقّع عليه أو لجهله بالأنظمة. ولم يقتصر التقدير والاهتمام السعودي بالعمال والمهاجرين على مجرد سن القوانين وتطبيقها، بل إن القيادة السعودية ضربت أروع المثل خلال أزمة كورونا التي ما زال العالم يعيش تفاصيلها حتى الآن، حيث سارعت السلطات الصحية بتوجيهات مباشرة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- إلى تقديم الرعاية الصحية اللازمة لجميع المرضى، دون تمييز بين مواطن ومقيم، حتى المخالفين لإجراءات الإقامة النظامية شملتهم العناية الطبية، في تطبيق عملي لتعاليم الإسلام الرحيمة ونظرته المتميزة للعناية بالنفس البشرية. وقد نالت هذه الجهود اهتمام المجتمع الدولي وتقديره، حيث تم انتخاب المملكة خلال العام الماضي لعضوية مجلس إدارة منظمة العمل الدولية، بعد أن كانت عضوًا مناوبًا خلال الدورة السابقة، وهو ما يمثل تقديرًا من المجتمع الدولي لجهودها المتواصلة في هذا الصدد واعترافًا بجودة قوانينها ومطابقتها للمعايير الدولية المرعية. ومما يزيد من قيمة هذا التقييم أنه صدر من جهة مختصة، تتعامل وفق معايير ثابتة ومواصفات واضحة واشتراطات صارمة. كذلك فإن جهود ترقية وتحسين بيئة العمل واستدامتها ليست محصورة على الجهات الحكومية، حيث تشارك منظمات المجتمع المدني فيها بفعالية كبيرة، إضافة إلى أن تضمين مادة حقوق الإنسان في المناهج الدراسية كفيل بأن يجعلها جزءًا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع وتقاليده، ويؤدي إلى ترسيخها وسط الأجيال المقبلة، لا سيما مع التوجه الحكومي لتعزيز دور هذا القطاع غير الربحي. ومن واقع ارتباطي المباشر بالمجال القضائي ومتابعتي لما يدور في المحاكم العمالية أؤكد بمنتهى اليقين والثقة أن هذه المحاكم تقوم بدورها المطلوب، وأن أبواب العدالة مفتوحة على مصراعيها أمام كل من له حق، وأنها تتعامل بمنتهى الشفافية. وهو ما أثبتته منظمات عدلية دولية. لذلك أعود وأكرر مرة أخرى أن الطفرة التشريعية التي نشهدها في هذا العهد الزاهر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين، وبمتابعة مباشرة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- لتجويد أساليب العمل القضائي واستيفاء متطلبات المجتمع الدولي تأتي في مقدمة المكاسب التي تحققت خلال الفترة الماضية، وستنعكس ثمارها الطيبة على جميع أوجه الحياة، وتسهم في اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية التي تبحث عن ملاذات آمنة، وستظل راسخة في أذهان الأجيال المقبلة.