تصدر نادي الميريا الإسباني لدوري الدرجة الثانية وصعوده إلى دوري الكبار كان مصدر اهتمام كبير في الشارع السعودي والمصري والمغاربي وبالتأكيد في الشارع الإسباني وبشكل جنوني في الميريا نفسها، وذلك مرده لعوامل كثيرة منها:

أن النادي يتصدر لأول مرة في تاريخه، ويدلف إلى دوري الدرجة الأولى للمرة الثالثة، وأن مالكه سعودي عربي هو المستشار تركي آل الشيخ، والأهم أنه يقدم نموذجا حقيقيا للتخطيط الإستراتيجي الواقعي في عصر أصبح فيه كثير من الإستراتيجيات لا يتعدى العرض المبهر الذي يقدم فيه Presentation، فقبل 3 سنوات أعلن النادي إستراتيجية تتحقق بعد 3 سنوات، وقبل انتهاء السنوات الثلاث ظفر الفريق بالبطولة وصعد لدوري الدرجة الأولى.

هذه الأحداث أحالتني إلى ذاكرتي الأندلسية تاريخاً وثقافة وأدباً وشعراً وإلى قصص الفتوحات والبطولات والهزائم وأساطير الحب والحرب، فعادت إلى ذهني مدينة المرية الأندلسية وقصبتها وكانت قد عادت إلى ذاكرتي مرتين: الأولى مع الفلم الكلاسيكي كليوباترا الذي أنتج عام 1963 والثاني مع الموسم السادس من مسلسل صراع العروش الذي صُوّرت أحداثه في عام 2016.

وربما يجهل الكثير من الشباب المهتمين بالرياضة أن الميريا الإسبانية هي المرية الأندلسية التي كانت تعرف قديما بمرية بجانة، وبجانة هي التي تسمى اليوم «بتّينا»، ويجهلون أيضاً أن قصبة المرية الشهيرة التي تعد أثرها البارز جاءت تسميتها مع الفاتحين الأوائل الذين ذهبوا مع موسى بن نصير ومن بعده من شبه الجزيرة العربية، وقصبة المرية وبقية القصبات التي انتشرت في المغرب العربي والأندلس إنما جاءت من ثقافة القبائل التي شاركت في الفتح من سروات جزيرة العرب حيث نشاهد البنى المعمارية للقصبات والحصون المنتشرة في الطائف جنوبا إلى الباحة وعسير واليمن وما زالت شواهدها وآثارها موجودة إلى الآن في قرية الكلادا بالطائف وذي عين بالباحة ورُجال بعسير وغيرها كثير، مثلما نجد قصبة باجة في تونس وقصبة الجزائر وقصبة آيت بن حدو في المغرب وقصبة مراكش، حيث بدأت القصبة كقلعة دائرية تشبه القصبة الهوائية أو عود القصب وأطلقت توسعاً على القلاع والحصون المربعة وإن كانت في بعض الأحيان تكون الدائرية كقلاع للمراقبة والدفاع ووجودها بشكل دائري حتى تكشف المنطقة كلها ولا تكون هناك بقعة عمياء ولذلك تكون عادة في أركان الأبراج المربعة كما تكون القلاع المربعة في وسط القرية أحيانا للحبوب والمؤونة، ثم توسعت فأطلقت على مجموعة الأبراج والحصون والبيوت المترابطة حولها.

وحتى تسمية المرية نفسها في لغة بعض القبائل في تسهيل الهمزة، فأصلها القصبة المرئية واختصرت إلى المرئية أو المريّة بالتسهيل كما يقال في يؤكل: يوكل، لأن المدينة الأصلية هي «بجانة» وبنيت هذه القصبة على جبل مطل على البحر لحماية المدينة فأطلق سكان بجانة «المرئية» أو «المرية» على هذه القصبة التي يرونها من مدينتهم، ثم بنيت حول القصبة حصون وقلاع وتكونت المدينة حولها مع الوقت، ولذلك فإن إطلاق القصبة على المدينة العتيقة أو الجزء المركزي منها إنما هو إطلاق ما كان على ما سيكون أو من إطلاق الجزء وإرادة الكل، كإطلاق قصبة الجزائر على الجزء المركزي من مدينة الجزائر، ثم تطور إلى ما يسمى بقصبة الإقليم وعاصمة الإقليم، وتفسير بعض الجغرافيين والمؤرخين أن تسمية المرية بمعنى المرآة لأن الناس يرون المدينة على صفحة البحر غير صحيح فحينما أطلقت المرية على القصبة لم تكن هناك مدينة يرونها من بجاية على سطح مياه البحر.

وتسمية المرية تلقي الضوء على أسماء المدن الأندلسية التي تغيرت قليلاً في اللغة الإسبانية حتى جهل الناس اسمها الأصلي واستخدموا الاسم الحديث دون أن يدركوا العلاقة بين الاسم الأندلسي والاسم الإسباني، وأوضح دليل على ذلك اسم العاصمة الإسبانية مدريد فقد كانت تسمى في العصر الأندلسي «مجريط» ومنها العالم الكيميائي والفلكي والرياضي أبو القاسم مسلمة المجريطي الذي شارك في ترجمة كتاب بطليموس في الفلك، وينطقون توليدو ولايعرفون أنها طليطلة، وأن بارسيلونا هي برشلونة، وأن فالادوليدو هي «بلد الوليد»، وكوردوفا هي قرطبة، وزاراجوزا هي سرقسطة، وفالنسيا هي بلنسية، وجرانادا هي غرناطة التي فيها قصر الحمراء، وتعد آخر المدن الأندلسية التي سقطت، وسيفيّا أو سيفيلا هي أشبيلية، وروندا هي رُندة التي منها أبو البقاء الرندي صاحب القصيدة التي رثا فيها الأندلس ومطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان **** فلا يغر بطيب العيش إنسان

وجوادالاخارا الواقعة في وسط إسبانيا ضمن منطقة كاستيا لامانتشا هي وادي الحجارة، قال ابن سعيد: وفي شرقي طليطلة مدينة الفرَج ويقال لنهرها وادي الحجارة، وعندما انتقل الغزاة الإسبان إلى المكسيك سموا عاصمة ولاية خاليسكو وهي إحدى أكبر مدن المكسيك «جوادالاخارا».

هناك قواسم مشتركة كثيرة وكبيرة بين الدول العربية وإسبانيا، ومن المهم العمل على تنمية هذه القواسم والإفادة منها وخاصة في المجالات الثقافية والعلمية والاجتماعية والتاريخية ومؤخرا الرياضية.

ومن هذا المنطلق كان العمل على أول عمل مسرحي موسيقي أوبرالي قدمته السعودية إلى أوروبا من بوابة إسبانيا وهو العرض المسرحي آخر الفرسان The Last Horseman حيث كانت الفكرة أن يقدم عمل عن السعودية خارج إطار الصورة النمطية وهي النفط والحج، وبحكم أن الخيول هي مصدر اهتمام مشترك بين السعودية وأوروبا، والأميرة آن البريطانية هي التي ذكرت أن الملك عبدالعزيز هو آخر الفرسان في العصر الحديث، وجاء موضوع المسرحية عن الخيل ولهذا قصة أخرى كنت أحد شهودها، وكانت الرؤية أن أفضل مكان يبدأ فيه العرض الموسيقي السعودي هو مسرح مدريد وليس مسارح باريس ولندن ونيويورك بحكم القاسم المشترك بين الثقافتين الإسبانية والعربية وهي أكثر الشعوب الأوروبية قربا وفهما للثقافة العربية الإسلامية.

هذه القواسم المشتركة مهملة ولم يلتفت إليها بصورة جادة في المشرق العربي باستثناء فترة سابقة لمعهد الدراسات الإسلامية الذي أنشأه طه حسين، وكان أول مدير له الدكتور محمد أبو ريدة ثم علي النشار وحسين مؤنس وصلاح فضل قبل أن يتحول بعد ذلك إلى عمل بروتوكولي روتيني، وكان أستاذنا الدكتور لطفي عبدالبديع ينقل إلينا الكثير مما تم إبان عمله فيها وكذلك صديقنا الدكتور صلاح فضل ، حيث كان الترافد الثقافي في ذروته تلك الفترة ناهيك عن الصلات الطبيعية القائمة بين أسبانيا ودول المغرب العربي مع ما يشوبها من حمولات سياسية وتاريخية معروفة.

لهذه الأسباب نحن نحتاج إلى استثمار أن تكون علاقتنا بالغرب عبر البوابة الإسبانية للقواسم المشتركة الثقافية والاجتماعية والبشرية والرياضية إلى جانب السياسة والاقتصاد، ونترك البكائيات على الفردوس الأندلسي المفقود وتجييش المشاعر التي طغت أدبياتها علينا في العقود السابقة دون جدوى، وننظر إلى مستقبل أجيالنا.