فأما من الأول إلى السابع فعنِ التضادّ الذي جُبِلت عليه الدنيا، مثل قول: «الشفع تَضادّ أوصافِ المخلوقين، والوتر انفراد صفات الله» أو قول: «كفى بالسلامةِ داءً».
أما الإسناد الثامن، فطالما أنَّ الدنيا مُتضادّة في صفاتها، فإنها تُضفي على الإنسانِ العاقل -بالضرورة- ضربًا من الجنون، وهنا نكون أمامَ سؤالٍ: هل ثمة عاقل لا يشوبه شيءٌ من الجنون؟.
وأما الإسناد التاسع والعاشر فَمن هو المجنونُ عند الناسِ؟.
ولنلحظ تخصيص الناسِ في إدراكِ المفهوم، وهذا مرتبط بناحيتين:
الأولى: إشكالية مفهوم العقل. ولهذا تأتي الناحية الثانية لتعضدها وهي: محاولة استظهار رؤية بالعرفِ العام.
وأما الإسناد الحادي عشر إلى الخامس عشر، فإطلاق لفظ الجنون؛ بصفته تهمةً طاردة من المجتمع، ومثال ذلك محاولة طرد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بقول: «مجنون».
وهنا نتأمّل بماذا أتى النبي؟ وما علاقته بعقلاءِ المجانين؟ أعني تضاد اللفظتين. هنا يأتي مفهوم الشعر -عند العرب- بصفته قرين الجِنِّ.
والجنون من جذر الجنِّ نفسه، واتهام العرب المكّيين للنبي بأنه شاعر، جاء مُقترنًا بوصفهم له بالجنون: (ويَقولونَ أَئِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعرٍ مَجنون).
لكنَّ القرآن نفى عنه الشعرَ أيضًا، لهذا فإنَّ التضاد -بين العقل والجنون- الذي أراده ابنُ حبيبٍ سيُنتج تمايزًا عمليًّا، وليس جوهريًا.
وسيكون مصدر التمايز هو الإسناد الخبري المنتهي بالإله، أي الوَتْر -بحسب اختيار ابن حبيب- الذي أوردَ عنه قولَ: «والوتر انفراد صفات الله»؛ فهنا يقف التضاد الدنيوي، ويدخل الإنسان مرحلةً جديدة بلا تضادّ.
لهذا نلحظ أنَّ كتابَ عقلاءِ المجانين؛ يعتمد على الإسناد، بصفته مصدر الحقيقة.
هنا نستعيد -أولا- رأيَ العامة/الناس في المجنون -بحسب اختيار ابن حبيب- وهو «...مَنْ يُخالف الناس في عاداتهم فيجيء بما يُنكرون» ونستعيد -ثانيًا- رأيَ الخاصّة في المجنون وهو رواية عن أبي العرّاف اليماني -ولنتأمل رمزية الاسم- يخاطب أبا لهب: «ما تقول في ابن أخيك؟ قال: لم نزل نداويه من الجنون، فقال: تبًّا لك سائر دهرك؛ إنَّ كلامَ المجانين متفاوتٌ غير مستقيم، وما يُشبه ابن أخيك المجانين بوجهٍ من الوجوه، فقال أبو لهب: فما هذا الذي يقول؟ فقال: وحي، ورسالة، وصدق، وحق».
في رواية الخاصّة توصيفٌ يُميّز المجنون عن العاقل، وهو (تفاوت الكلام). والتفاوت يجتمع مع الاختلاف ويفترق؛ فأمَّا اجتماعهما فهو فعل الأشياء خلف بعضها، وأما افتراقهما، ففي الاختلاف يكون الفعل بوعي، والتفاوت بلا وعي، أي أنَّ حديثَ المجانين يأتي مُتفاوتًا؛ أي بين اللفظةِ واللفظةِ فجوة في المعنى، لا تُسدّ بفهم الآخر.
وحديث العقلاء يأتي مختلفًا، أي بين اللفظةِ واللفظةِ فجوة في المعنى تُسَدُّ بفهمِ الآخر. فما الذي جَعَلَ أبا لهب -وهو معدود من الخاصّة هنا- يغفل عن هذا الوصف، ويختار تعريف العامّة؟ أهي غفلة أم تغافل؟ إذ في تعريف الخاصّة ما يَصنع تَصوّرًا عن مجتمعٍ عاقلٍ يستطيعُ تحديدَ مَنِ المجنون؟ لكنّه -في الوقت نفسه- يمنع تميّزَ ما جاء به محمد عن حديثِ العربِ البلغاء،لهذا كانت إجابة أبي العرّاف بشيءٍ لا يصف اللفظ، بل يصف مصدرَ المعرفة، أي أننا أمام شخصٍ لديه معرفة تَخفَى عن الأشخاص الآخرين، لأنَّ مصدر معرفته: الحق/الوَتْر. وهذه اللحظة هي التي شَكَّلت عقلانيةً خاصّة، تُميَّز بعملٍ خاص، لهذا نجد في الإسناد الثامن نصًا يورده ابنُ حبيبٍ بسنده إلى أنس بن مالك: «بينما الرسول في أصحابه؛ إذ مرَّ به رجلٌ فقال البعض: هذا مجنون، فقال الرسول: هذا رجلٌ مُصابٌ، إنما المجنون المقيم على معصية الله».
وأما الإسناد السادس عشر إلى السادس والعشرين؛ فمَن هو المجنون عند أهل الحقائق؟ ولنتأمل استخدامه لجمع الحقيقة، تلك الكلمة التي تُحيلنا على تعريف القُشيري؛ حين قال -في لطائف الإشارات: «أهل الحقائق هم لسان الوقت». وهذا التعبير يُوزِّع الحقَ على ذواتٍ، يرونَ الحقَ بقلوبهم، فيُشيرون عليه، فإن طُولبوا بالحجةِ لم يَجِدوها، فلا يَتّبِعهم المغفلون/المجانين، فيسكت أهلُ الحقائقِ حتى يُجيب الزمانُ عنهم،لمـَّا يرى الفردُ الحقيقةَ ماثلةً أمامه بعد الموت.
لهذا أورد ابنُ حبيبٍ قولَ: «والمجنون عند أهل الحقائق من ركنَ إلى الدنيا وعمل لها، وطاب بها عَيشًا، بذلك نطقت الأخبار» إذن: نحن أمام تَعريفاتٍ ثلاثة للمجنون: تعريف العَامّة/الناس وهو مَنْ خالفَ العادة.
وتعريف الخاصَّة وهو التفاوت في الكلام. وتعريف أهل الحقائق وهو مَنْ ركنَ إلى الدنيا. وهذه التعاريف تصنع عقلانيّة ذاتية، يُمكننا أن نُشيرَ إليها بـ«عقلي»، أي بياءِ المتكلّم، لكنَّها في الوقتِ نفسه، تحيل -في مجموعها- إلى عقلٍ موضوعِيّ، لكن باختلاف الموضوعية،
إذ تعريفُ العامة/الناس للمجنونِ يُحيله إلى العقلِ السياسي والاجتماعي، أي مَن خَالفَ بذاتيّته الذاتَ الاجتماعية والسياسيّة.
بينما تعريف أهل الحقائق يُحيله إلى العقلِ المتعالي، أي مَنْ خالفَ بذاتيّته العقلَ الكلي. وتعريف الخاصّة يحيله إلى العقلِ اللغويّ المنطقي، أي مَن خالفَ بذاتيّته شروطَ الفهمِ والإفهامِ في ظِلّ الربط اللغوي اللازم.
إلا أنَّ هذه التعريفات تتقاطع؛ لتجتمعَ عند سُلوكٍ يخترق الأُطرَ الفكرية بشكلٍ مُزدوج؛ أي لكُلِ إنسانٍ حالتان: عقل/لا عقل؛ فأهل الحقائق يَرون المجنونَ مَن ركنَ إلى الدنيا، بينما العامة والخاصة يرونه الذي لا يركن إلى دنياهم.
فَأهل الحقائق، يرون عُمَّارَ الدنيا مجانين؛ لأنهم ينسون الموت. وعُمَّار الدنيا يَرونَ أهل الحقائق مجانين، لأنّهم ينسون الحياة. وفي كلٍ منهما جزء من الآخر.
وهُنا يكون العُرف الخاص في الحياة العملية حاكما عقليا على هذه الازدواجيّة،أي مَن سموه عاقلًا، فأي تصرفٍ منتسب للجنون لا يخرجه من كونه عاقلًا، ومن سموه مجنونًا، فأي تَصرفٍ منتسب للعقل، لا يُخرجه من كونه مَجنونًا.