المنظومة الفكرية المتوازنة، التي ينبغي أن تشكل ملامح إمكانية المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية، هي التي تتسم بصفات الوسطية والاعتدال والتسامح التي قررها الله تعالى، عبر رسالاته بواسطة أنبيائه، الذين بلغوا كتبه وتعاليمه، والمحافظة على هذه المنظومة وصفائها، هو الشرط الأصيل للنهضة، واللحاق بركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، والمشاركة فيها والتأثير الإيجابي عليها، كما أنها صمام أمان لبناء المجتمع السليم على أسس متينة وقوية من التعاون والعيش المشترك، التي تحافظ على تماسك مكوناته، في حالة من التفاهم والسلم الاجتماعي، المعزز لحركة البناء والنهوض والتقدم والتطور.

ومن المؤكد أن تفعيل هذه المنظومة هو الأساس، في معالجة مظاهر التطرف التي تغزونا مستهدفة الشباب بشكل رئيس، وما يشكله ذلك من إمكانية زرع فكر متطرف قد يستخدم في أعمال وممارسات تسيء إلى أمن الوطن، وتنقل عدوى الإرهاب المتجذر في المنطقة، بسبب أعمال محور الشر الإقليمي.

ولا يمكن أن يتعلق التطرف بأمة بعينها أو مجتمع بعينه، بل هو اليوم كما نرى ونشاهد ظاهرة إنسانية، لأسباب عرقية إثنية ودينية وثقافية واقتصادية وسياسية، ولا شك أنه وتجلياته الأكثر عنفاً ودموية المتمثلة بـالإرهاب، أخذ يتصدر المشهد الدولي، ويتفاقم دوره في العقود الأخيرة، بيد أن الأمر الأكثر مرارة بالنسبة لنا، أن تكون هذه الصفة «التطرف والإرهاب» ملازمة للعرب والمسلمين في الانطباعات السياسية والإعلامية، بأشكالها وصورها المختلفة، مع أننا الأكثر تضررًا منها في العالم.

يجب التصدي للتطرف ومواجهته ومحاصرته، لمنع انتشاره وتوسعه في الأوساط الاجتماعية، عبر جهود مشتركة تشمل كل الجوانب التي تتعلق بهذه الظاهرة، تربويًا وثقافيًا وسياسيًا، واجتماعيًا واقتصاديًا ودينيًا، وهذه الجهود في المقام الأول هي دفاع عن الإسلام، وصورته النقية التي يشوهها المتطرفون.

ولشديد الأسف فإنه ما زال جزء كبير من ثقافتنا الدينية التي يتم نشرها في التعليم، وعبر المؤسسات الدينية والأوساط الأكاديمية، ترسخ أن فئة أو طائفة معينة تمتلك حقيقة الإسلام، وأنها وحدها التي تستطيع أن تستنبط الأحكام الشرعية، للوصول إلى الشريعة الصحيحة أو الدين الحق، ولذلك فإنه من الواجب التنوير بثقافة دينية منفتحة ومتسامحة، من شأنها أن تسمح بالتعددية وقبول الآخر، سواء أكان رأيًا أم فردًا أم مجتمعًا أم دينًا أم ثقافة، وأن تعزز فرص فهم أفضل للدين والشريعة وأحكامها.

وثمة محددات خمسة يمكن -إذا أحسنّا استثمارها- أن تقدم لنا حلولًا ناجعة، ونجاحات حقيقية في مواجهة التطرف سلوكًا وممارسةً وثقافةً، حيث إن هذه المحددات تتعامل مع ثقافة التطرف التي تسبق التطرف سلوكًا وممارسةً، وهي:

الأول: إفشاء ثقافة دينية صحيحة أصيلة، منطلقة من الكتاب وصحيح السنة النبوية، حيث إن جانبًا مهمًا من أسباب التطرف الديني، يكمن في التفسير الخاطئ للدين وتأويله، من قبل الذين يتصدون للعمل الإسلامي، وينصبون أنفسهم حراسًا للعقيدة والشريعة، فيتوهم هؤلاء أنهم الممثلون الشرعيون الوحيدون للإسلام.

الثاني: إشاعة ثقافة مجتمعية ومدنية قائمة على الانفتاح، فحيثما تضعف هذه الثقافة تزدهر ثقافة العنف، وثقافة التطرف بأشكالها المختلفة، وينبغي أن يرعى ذلك جهد وطني تؤسس له الدولة بأركانها الرسمية وغير الرسمية، وتسهر على تنفيذه بصورة مؤسسية، كمشروع متكامل، يأخذ صفة الاستمرارية والديمومة، لا صفة الظرفية المؤقتة.

الثالث: تأصيل قيم التسامح والتعددية، وثقافة احترام حقوق الإنسان وقبول الآخر، وترسيخها من خلال المؤسسات المعنية، بالتوجيه عبر برامجها وعملها، مثل: وزارة التعليم، ووزارة الإعلام، ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، ووزارة الرياضة، والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، والهيئة العامة للترفيه، وغيرها من المؤسسات المعنية.

الرابع: إعلاء شأن الفنون وقيمتها بمختلف أنواعها، لدورها الفاعل في مقاومة تنميط التطرف داخل حياة المواطن السعودي.

الخامس: المرأة خط الدفاع الأول ضد التطرف، فالمرأة السعودية بمبادئها قادرة على قيادة المجتمع في هذا السبيل، إذ إنها ووفقًا للمتغيرات الاجتماعية المعاصرة، تدير أعظم مؤسسات المجتمع على الإطلاق، وهي الأسرة، وتشرف على تربية الأولاد وتعليمهم، لذا فمن المصلحة اختصار الوقت والزمن أمامها وتسهيل حياتها، لنعبر إلى سعودية المستقبل بكل سلاسة ومرونة.

ينبغي أن يكون تفعيل هذه الأطر وفقًا لخطط متكاملة مستمرة، ذلك أن مقصدها ليس مواجهة تنظيم معين أو مشكلة آنية، إنما تسعى إلى نشر فكر سليم متوازن، يضمن مجتمعًا آمنًا متماسكًا أمام الأخطار المحدقة، حصينًا أمام التحديات المختلفة، تشارك فيها المؤسسات المعنية رسميًا وشعبيًا.

وفي هذا الصدد، وعطفًا على ما ذكرته أعلاه، وتعزيزًا لجهود وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد المميزة، فيقترح صناعة الوزارة لخطة إستراتيجية شاملة، ثم نشرها ليشارك المواطن بمراقبتها ونقدها، وفحص مدى التقدم فيها، وهذه الخطة تمكن الوزارة من القيام بدورها النهضوي، ومسؤولياتها التوعوية والإرشادية، خاصة فيما يتعلق بخطب الجمعة والوعظ والإرشاد، بما يتوافق مع رؤية 2030، ولا أعني هنا خطة لأعمال الوزارة الإدارية والتطويرية، وإنما إعادة هيكلة منظومة الوعظ والإرشاد، باعتبارها الأساس في عمل الوزارة، وتوفير الكوادر القادرة على التخطيط والنهوض بهذا الدور الرئيس: مسؤولية الدعوة والارشاد، وصولاً إلى منظومة أكثر قدرة على التعامل مع الواقع واستشراف المستقبل. ويأتي كذلك على رأس الأولويات، صناعة برنامج تدريبي وتأهيلي، يستهدف الارتقاء بخطباء الوزارة الرسميين والاحتياطيين، يعتمد على ترسيخ منهج الحوار والتحاور، والتسامح والسلم والتعايش، وأن يحرص على أن يتولى منبر الجمعة أكفاء قادرون من المتخصصين ممن يحظون باحترام شرائح المجتمع وتقديرهم، وأن يكونوا من القادرين على إحداث التغيير المنشود في مسألة مواجهة الفكر المتطرف ومكافحته، وفق سماحة الإسلام ووسطيته واعتداله، بما يضمن المساهمة في تحصين المجتمع من الانزلاق في مهاوي الغلو والتطرف. وفيما يتعلق بالإعلام، فيقترح تطوير برامج تفاعلية، للتأكد من أن المجتمع السعودي لديه من الوعي ما يحصنه من خطر التطرف، والتأكيد على أن الشخصية السعودية هي الشخصية المعتدلة والوسطية، التي تتمثل القيم العليا: التسامح، والاعتدال، وقبول الآخر، والحوار.

ويضاف إلى ذلك إنتاج رسائل إعلامية، وبثها عبر وسائل الإعلام، توضح حجم الرفض السعودي للتطرف والغلو والتكفير، بأسلوب مناسب يصل الخارج قبل الداخل.