هل يمكن أن تكونَ الكتابةُ شهوةً في ذاتها؟! ربما؛ حين يكون الكاتبُ أولَّ القراء، أي أن يُجرّد من نفسه قارئًا. وبمعنى أن تكونَ نتائج ما يَكْتُبه مفاجئةً له.

وربما هذا شَرطٌ من شُروطِ المتعةِ الدافعةِ للكتابةِ اللا مشروطة، المتعددةِ بتعددِ خياراتِ الحياةِ، والإمكانية الموجودة فيها بالقوة. والكتابةُ للنفسِ مُتَضمِّنَة كَتابةً للغير، أمَّا الكتابةُ الموجّهة للغير، فهي تتوسَّل قارئًا، له دوافعه وخياراته التي تأقلمت واتّحدت بِشَكلٍ ما، مع الكاتب، فأنتجت كُتّابًا/قراء مؤدلجين بصورةٍ ما، وليس -فقط- أدلجةً شموليّة.

‏فعن ماذا نبحث حين نكتب؟ أَعن شَيءٍ مجهولٍ يُعرّفنا أو يُمتّعنا أو يُدهشنا؟ أم شيءٍ معلومٍ نُكرِّرُ به ما جرى ويجري، ومعلومٍ بطرق مختلفة؟ أم شيءٍ مجهول، بافتراضاتٍ يقينية!؟

أم استكتابٍ وظيفي يتجرَّعه القلمُ كما يُتجرع السمّ؟ أم هي شهوات السرد؟ وللسردِ شهواتٌ كسكراتِ الموت؛ تختلف باختلافِ السارد في تصوره لمعنى القارئ المنتج لسرديةٍ موازيةٍ بالقوة.

أم هي شهوة النَظْم؟ وللنظم شهوةٌ واحدةٌ، يخبئ فيها الناظمُ مقالاته الإيديولوجية،

أما الشعرُ فله شهوات، وشهواته بعضها كالجنس في النظرية الفرويديّة، متشبثة بالأبوة والأمومة، وأشكالِ العلاقة التي تشرح الحقيقة، وبعضها تبحث عن التَطَهّر من الجنس الفرويدي!، وبعضها قد تَفتَح شُرفات؛ لتَصوّر العالم. أم وأم...إلخ

التساؤلات المنفتحة على آفاق لن يبلغها الإنسانُ إلا بحريةٍ من قيد الآخر، والآخر لازمٌ لا ينفكّ عن الذات، لكنَّ المراد هو حين تكون خياراته وحريته متضامنة مع خيارات الكاتب، بشكلٍ يُنتج حركةً اجتماعية معلومة، ومرصودة، وفقيرة المعنى والتأويل.

‏نَظَمَ عبدالفتَّاح كليطو من مقولة (من نبحث عنه بعيدًا يقطن قربنا) كتابا، سْماهُ باسمها، وأصلُ هذا المقولة وردت في يوميّات كافكا.

حين قرأتُ كتابَ كليطو، لم أكن -فعليًا- قارئا، بل كاتبا لصفحاته.

فكليطو يفتح شُرفاتٍ مجهولة حتى إذا صارت معلومة، فتح شرفات أخرى، وهكذا من شرفةٍ إلى أخرى حتى تُسلّم الروحُ، الرايةَ لروحٍ أخرى، لهذا كُنَّا نكتشف -أنا وهو- النتيجةَ في الزمنِ ذاته.

يتفاجأ كليطو مع قارئه بما وصل -هو- إليه، ثم بما يصل إليه القارئُ، لأنَّ القارئَ/الكاتب، حينها يُنتج شرفةً جديدة موازيةً لشرفات كليطو. لهذا فإنَّ شهوةَ الكتابةِ هي أن يكونَ ما يُكتب، لا يُدرى فيه عَمَّا يُبحث.

وكأنَّ النفس تستمتع، وتُمتّع نفسها بصفتها آخر.

ومن هنا فإني أتفاجأ -كثيرا- بما يصل إليه تأويلي، فأرقصُ طَربا، فمثلًا لا أنسى مقالةَ (السمور فيلسوفا)، حين كنتُ أتسامر مع محمود درويش في أروقةِ كتابهِ النثري «ذاكرة للنسيان»، فقدحَتْ فكرةُ تأسيسِ معنى علائقي بين السَمّور والأخلاق.

فاستأذنتُ درويشَ، لأدوّنَ الفكرةَ فحسب، ثم أعود إليه، ذهبتُ ولم أعد إليه إلا وأنا أحمل إليه مقالة كاملة، لأجعله يُشاركني الرقصَ فرحا، لقد اكتشفتُ إمكانيةَ تأسيس علاقة بديعة، تنتج تأويلا يُضافُ إلى الحقائق المتعددة.

ومن هنا كانَ الإمكَانُ بلا حدٍ مَنْظور، يوازي كون الإنسان متجاوزا لقيودِ الطبيعة المنظورة وتقنياتها.

وفي بواطنِ سُخرية المعنى تُرفرف حقائقٌ تأويليّة، لهذا ‏شاركنا الرقصَ الفيلسوفُ نيتشه.

ثم جلسنا نشرب قهوةً أعدَّها درويشُ، ونضحك سخريةً -في الحقيقة التأويلية- من الأقلام التي تكتب تاريخ المُطلَق، وفي الحقيقة الواقعية نسخر من أولادهم.

أعود لكليطو، وكتابِه، الذي نَظَمَ به عِقدا من فصولٍ تُؤوِلُ سِرَّ حكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلة، ابتداءً من الساردةِ الأولى (شهرزاد الأولى) وحتى (الكتاب الذي كانوا يَتمنّون كتابته).

وجدتُ نفسي أصنع بِساطًا من الريح، كَيْلا يتوقف التأويلُ -وهذا معنى من معاني الكاتب/القارئ- إذ التساؤل عن هويةِ الساردةِ الأولى لليالي؛ فَتَحَ -لديَّ- سؤالَ الأنوثة الموجودة في الذكر؛ لأنّه يحمل كروموسوما أنثويا (x)، إضافة لكروموسوم الذكر (y)؛ ما موقع هذا من الساردةِ الأولى للّيالي؟ ويجدر بي -أولًا- أن أُبيّنَ سببَ ذِكْرِ الساردةِ الأولى؛ حيث جاءت -في كتاب الليالي- حكايةٌ ليست مِنَ الألفِ ليلةٍ وليلة، بل هي مُقدمة لها، عنوانها:

(حكاية الملك شهريار وأخيه شاه زمان)، وفي هذه الحكاية يَتعَرّض -شهريار وشاه زمان- للخيانةِ الزوجيَّة، مما يجعلهما يُسافران بحثا عَمّن جرى له مثلهما، فرأيَا جنيّا عند البحر، يحمل صندوقا، وبداخله عُلبَة، وبداخل العلبة صَبيّة.

هذه الصبية استغفلت الجنيَّ وتحدّثت مع شهريار وأخيه، وعَقدت معهما اتفاقًا.

من هنا فإنَّ كليطو يَعدّ هذه الصبيّة هي التي مهّدت لظهور شهرزاد.

إلا أني رأيتُ في الحكاية ما يدعو لإعلان أنَّ (شهرزاد الأولى) هي معنى الأنوثة التي ستُبنى منها حياة الذكور والإناث المتجسدة، بتطورات إنسانية، مع إبقاء جزئية أنثوية هي جذوة لتحريرهما من تجسّدات التاريخ. فإذا كان عقابُ الأنثى -في حكاية المقدمة- كان على حسابِ جسدها؛ فلأنَّ روحَها مُغيّبة، تقول الصبية المسجونة من قِبَلِ الجنّي بعد أن طلبت من شهريار وأخيه أن يُجامعاها: «أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت، فأعطياني خاتميكما أنتما الاثنان الآخران».

إلا أنّ صورة العقاب تظهر بهذا اللفظ: «لم يعلم أنَّ المرأة منّا، إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء». فلفظة (مِنّا) تحمل توريةً؛ لها وجهان: وجه قريب يُفرق بشكلٍ طبيعي بين الإنس والجن، ووجه بعيدٍ يُفَرِّق بين الذكر والأنثى تفريقا طبيعيًا كذلك.

وعلامة هذا التفريق أنَّ الساجنَ للأنثى الإنسية هو كائن ليس إنسيًا.

مما يُعطي تفريقًا بين الذكر والأنثى من حيث ارتكاز بذرة الخَلَاص، فيظهر أنَّ هذا الفعل كأنَّه مرآة لشهريار وأخيه؛ أي رأوا لماذا خانتاهما! أي أنَّه عقاب لهما على سجنِ الأنثى، وفي الوقت نفسه إشارة لمصدر الخلاص، الموجود فيهما من جِيْنٍ أنثوي، فتقول لهما بطريقٍ تأويلي: «وكُلُّ الحلول التي في أذهانكم لا تُفيد ما لم تعودوا لجذر الأنثوية فيكما»، ومن هُنا تكون المقدمة تحيل على كتابٍ مليء بحكايات ذات متن أدبي وحواشٍ وراثية تؤبد الكروموسوم (X) وتطرد الكروموسوم (Y).

وطالما أنَّ الذكر يحمل كروموسوم الأنثى (X) فإنَّ مَنْ نَطلب طَردَه وإلغاء مساره من طريقٍ بعيد، يقطن قريبا منّا.