أحيا العالم خلال الأيام الماضية ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الكراهية، والذي يأتي في وقت تتزايد فيه التحديات التي تحيط بكوكب الأرض وتهدد الحياة البشرية، بسبب طغيان الخطاب الأحادي الإقصائي، وانتشار المشاعر السالبة وارتفاع وتيرة التجاوزات بحق الآخر في التعبير وحرية الأديان، لا سيما ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تتفشى للأسف في كثير من دول العالم.

ونظرة سريعة إلى واقع الحال في العديد من الدول تكشف صورة سوداء قاتمة، نتيجة لممارسات غير مسؤولة نابعة عن ضيق بالآخر ورغبة في إقصاء المخالف إن لم يكن استئصاله، ومصادرة لحقوقه التي كفلتها كافة الأديان وأقرتها القوانين والمواثيق الدولية، لكن للأسف فإن ما تقره كثير من دول العالم من معاهدات وقوانين يبقى حبرا على ورق وتظل المسافة ما بين الإقرار والتنفيذ شاسعة ومتزايدة.

وإن كان العالم قد ابتلي بآفة الإرهاب التي لم تسلم منها دولة من الدول، ودفع ثمنها الباهظ مئات الآلاف من الأبرياء وتسببت في إراقة الدماء وضياع الموارد وانهيار الدول، فإن تلك الآفة المدمرة لم تنشأ إلا نتيجة لانتشار الكراهية والعنصرية وعدم القدرة على استيعاب المخالفين، سواء كان الاختلاف في الدين أو العرق أو اللون أو اللغة.

حتى الدول التي تزعم الحضارة والديمقراطية ورسوخ قوانين حقوق الإنسان لم تسلم من تفشي تلك الظاهرة السالبة، ففي أوروبا والولايات المتحدة تتزايد تيارات اليمين المتطرف وتنتشر الجماعات الشعبوية الأخرى التي تعتنق خرافة تفوق العرق الأبيض وتجاهر بكراهية المهاجرين واللاجئين وتدعو إلى طردهم من الحياة العامة وإبعادهم إلى بلادهم.

وإذا أردنا الوقوف على الأسباب الموجبة لانتشار هذه المشاعر السالبة والمفاهيم الخاطئة نجد أن السبب الأساسي يعود إلى خلل فكري واضح تغذيه تيارات متطرفة، وسوء فهم لمبادئ الأديان، ووجود مشاكل تربوية تصاحب معتنقي تلك الخرافات منذ نشأتهم الأسرية الأولى، إضافة إلى انتشار البطالة وتدني مستويات الدخل، والتفكك الأسري والجهل وطغيان الحضارة المادية.

في واقعنا العربي والإقليمي تبرز أيضا مشكلة التصنيفات المدمرة، سواء على صعيد الفكر أو الثقافة أو القبيلة أو المنطقة، فالبعض يتمسك بتصنيف الناس إلى تنويري وليبرالي ومحافظ وعلماني، إلى غير ذلك مما يتسبب في تقسيمات فئوية تؤدي في نهاية الأمر إلى إضعاف اللحمة الوطنية وانتشار الضغائن والرغبة في الاستبعاد، لا سيما عندما تصاحبها ظاهرة التخوين والاتهامات.

وبنظرة سريعة إلى موقف الأديان السماوية كافة وكثير من الثقافات والمقدسات نجدها قد اتفقت على رفض الدعوة لكراهية الآخر مهما كان السبب لأن ذلك ينافي كريم الأخلاق، ودعت إلى الابتعاد عن ذلك السلوك ونادت بالتحلي بالتسامح والمحبة. كما أقرت ضرورة صون كرامة الإنسان وحقه في حياة كريمة وآمنة، على أسس من الحرية والعدل والمساواة، بغض النظر عن عرقه ومعتقده ودينه. لكن المؤسف أن بعض المتشددين والمتطرفين الذين أساؤوا فهم أديانهم يتصورون خطأ أنهم ينصرون قناعاتهم ومعتقداتهم بأفعالهم الإجرامية المرفوضة.

وتحل ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الكراهية هذه السنة والعالم يشهد موجة من أعمال العنف في العديد من الدول بعد تطاول بعض مسؤولي حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند على مقام النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو ما تسبب في موجة جديدة من العنف والعنف المضاد راح ضحيته كثير من الأبرياء.

ورغم التسليم بمقدار الألم الذي اعترى المسلمين في معظم دول العالم وهم يرون بعض الجهلاء يتطاولون على نبيهم الذي كان مثلا للتسامح والتعايش، وجسَّدت سيرته ونهجه الاعتدال في أبهى معانيه، فإن رد الفعل غير المحسوب قد يكون أكثر ضررا، فلا معنى لتلك الأحداث التي صاحبت الاحتجاجات، فنصرة نبي الرحمة لا يمكن أن تكون بالعنف إنما بالعمل الجاد نحو إيضاح سيرته وحقيقة تعاليمه وهديه النبوي الكريم.

وقد أدانت المملكة خطاب الكراهية بجميع أنواعه وأشكاله، مؤكدة أن جهودها على الصعيد الدولي لا تزال مستمرة نحو كل ما من شأنه أن يعزز قيم التسامح ويدحض كل ملامح التطرف والكراهية والعنف. جاء ذلك في كلمة المملكة، خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بهذه المناسبه بمقر الأمم المتحدة في نيويورك. وأكدت أن خطاب الكراهية مبني على الاختلاف وعدم تقبل الآخر، وأن الاختلافات بين البشر من حيث الأعراق والأديان والمذاهب والأفكار ستبقى ولا يمكن طمس هذه الاختلافات أو التخلص منها، لذلك فإن التسامح وقبول الآخرين هما السبيل الوحيد لمجتمع دولي مستقر وآمن، بعيدا عن الاضطرابات والتوتر والانقسام.

وشددت على أن التصدي لخطاب الكراهية لن ينجح إلا بتضافر الجهود الدولية وفق استراتيجية شاملة وفاعلة وبجهد دولي منظم.

ولم تكتف المملكة بذلك، بل قامت في كثير من الأحيان بالدعوة إلى تعزيز الحوار وتغليب لغة التعايش والتسامح، وأنشأت مركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الأديان، ومركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وقدمت مبادرات كثيرة وجدت الإشادة والتقدير والتجاوب من المجتمع الدولي.

وإن كانت الدول العربية والإسلامية قد اختارت التجاوب مع المجتمع الدولي، ووقفت بحزم وقوة ولا تزال ضد تنظيمات التشدد والتطرف مثل القاعدة وداعش، ووجهت لها ضربات ساحقة شلت من قدرتها على التحرك، فإن الواجب أن تحذو الدول الغربية نفس الموقف وتقوم بعمل مضاد ضد تيارات العنف التي يغذيها اليمين المسيحي المتطرف، حتى وإن تذرعت بحرية التعبير والديمقراطية، وغير ذلك من اللافتات البراقة التي لا تعدو كونها كلمات حق أريد بها باطل.

الآن أرى العالم يقف أمام مفترق طرق رئيسي، ويواجه تحديات جساما تهدد استمرار الحياة البشرية، يستوجب الوقوف بحزم وقوة أمام أصحاب الدعوات الهدامة وممارسي العنف بحق مخالفيهم، حتى وإن كانوا قادة أحزاب سياسية كما نشاهد في كثير من الأحزاب اليمينية المتطرفة في بعض الدول الأوروبية والآسيوية، فهؤلاء يقودون العالم نحو الدمار، ويؤججون الخلافات والنعرات. أما الارتضاء باتخاذ المواقف الرمادية وغير الواضحة، وغض الطرف عن المسيئين وأصحاب الدعوات الهدامة فإن ذلك لن يؤدي سوى لاستمرار المهددات وإسالة المزيد من الدماء.