عجيب أمر هذه الحياة، فتارة فيها ما ينبغي أن يقدم، وتارة فيها ما يجب أن يؤخر، وفيها المكروه الذي صار مستحبا، والمستحب الذي انقلب مكروها، وفيها الممنوع الذي صار حلالا، والحلال الذي صار ممنوعا، وأمور كثيرة متشابهة، وكلها تأتي تحت مظلات متنوعة، وأهمها مظلة «مراعاة واجب الوقت»، التي يسميها طلاب العلم الشرعي «فقه الأولويات»، أو «فقه الموازنات»، ونحو ذلك.

الكلام السابق لا يندرج تحت تصنيف «البدعة» أو «أهل البدع»، الذي نرمي به غيرنا، يمنة ويسرة؛ فهو كلام له جذوره القوية والممتدة، يقول الإمام العز بن عبدالسلام، أحد أبرز علماء القرن السادس الهجري، والملقب بسلطان العلماء، في فصل سماه: «فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما»، من كتابه الشهير (قواعد الأحكام في مصالح الأنام): «معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك»، وشواهد غير هذه كثيرة.

حياتنا اليوم، وكل يوم، تحتاج إلى من يحسن استحضار الظروف المختلفة، سواء أكانت فكرية أو نفسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو اقتصادية أو حتى سياسية، ويجعلها مفاتيح لتكييف الأمور المختلفة، حتى لو بدت في بعضها صادمة، وهذا هو الذي عنى به العلماء في قولهم «تحقيق المناط»، إذ به تحصل التوازنات المعتبرة شرعا، بين ما اجتمعت فيه مفاسد، واجتمعت فيه في ذات الوقت مصالح، وهو أمر عريق في التراث الديني، ومن أساطين المشايخ العز بن عبدالسلام، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وغيرهم، تحدثوا عنه باستفاضة في عناوين خاصة، وهو يبحثون في مسائل التعارض والترجيح، والمصالح، والمآلات، والضرورات، والحاجات، وغيرها من المفردات.

إن قيمة أي فعل أو تصرف، لا يمكن أن تحدد، دون التمييز الدقيق بين منافع الأشياء ومضارها، من خلال الأسس والمعايير الضابطة لذلك، لأن الأمر دقيق للغاية، وبالغ الخطورة؛ والمصالح والمفاسد، وكما هو متفق عليه بين أهل الوعي مشتركة ومختلطة، دليلهم قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس}، وعن ذلك عبر الإمام القرافي في كتاب (تنقيح الفصول) بقوله: «ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلّت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة وإن قلّت على البعد»؛ وهو ما يجدد الحاجة دوما إلى تبني الاجتهاد المتجدد في مسائل الحياة، وهذا لكي يكون ناجعا وناجحا، لا بد له من توفير مجتهدين مدربين، ومدهم بالملابسات والعوارض، وعدم إقصاء من يتوفر فيه حسن النظر، بحجج واهية، مثل الأصل، أو لون البشرة، أو أن غيره حيواني الأكل أو نباتيه، أو هو يرتدي ألبسة الصوف في الحر الشديد، أو يتخفف منها في عز الشتاء.