بؤس المرأة في عالمنا، حكاية تستحق أن تُروَى، ففي البدء لم يكن ثمة جندر، ولا مكان للنزعة الفردية؛ فالكل إنسان، والكل سواء، امرأة أو رجل، المرحلة الفاصلة التي أنهت وجود الإنسان السوي بالعموم على وجه الأرض كانت باكتشاف الزراعة قبل عشرة آلاف سنة تقريبًا، حيث تشكلت على إثر هذا الاكتشاف: الطبقية بمرور الوقت؛ نتيجة عاملَين أولهما: الملكية الخاصة التي ظهرت بسبب الاستقرار في مناطق محددة أصبحت فيما بعد قرى صغيرة، وبدأ الإنسان في زراعة أرضه والارتباط بها؛ ما أدى إلى تشكيل مدونات للتملك، لمنع نشوب الخلافات، وهنا ظهر مَن يملك ومَن لا يملك، والعامل الثاني: هو فائض الإنتاج الذي دفع إلى التفكير في تقسيم العمل؛ فلا حاجة أن يعمل الجميع بالزراعة، وهنا بدأ تشكل الطبقية والتمايز بين البشر، فانطلق النزاع بين الجنسين، والذي امتد حتى يومنا هذا.

النظرة الدونية لجسد المرأة، هي مفتاح النظرة للمرأة كإنسان اليوم، ولا أظن -من وجهة نظري- أن هذا الأمر هو الذي أدى في البداية إلى تحويل المرأة إلى إنسان من الدرجة الثانية، وأراه أتى لاحقًا كتبريرٍ فجٍ ووقحٍ لطبيعة التعامل مع المرأة بهذا الشكل المهين، عندما عَجزت الأجيال المتعاقبة من الذكوريين - والذين يضمون بينهم بعض النساء- عن تفسير السبب الرئيس وراء هذا التمييز الجندري، وتذكر سيمون دوبوفوار في كتابها، (الجنس الآخر،1/31): «يقول هواة الصيغ البسيطة: المرأة؟ هذا بسيطٌ: إنها رحمٌ، ومبيضٌ؛ إنها أنثى: وهذه الكلمة كافية لتعريفها. يتردد نعت «أنثى» في فم الرجل كإهانةٍ، مع ذلك هو لا يخجل من حيوانيته، على العكس من ذلك، هو يفخر حين يقال عنه «إنه «ذكر»! وتعبير «أنثى» هو تحقيريٌّ ليس لأنه يغرس المرأة بالطبيعة، ولكن لأنه يجعلها أسيرة جنسها. إذ بدا هذا الجنس للرجل محتقرًا وعدوًا حتى لدى الحيوانات البريئة، فهذا بالطبع بسبب العدائية القلقة التي تثيرها المرأة لديه؛ وهو يريد مع ذلك أن يجد في البيولوجيا تبريرًا لهذا الشعور».

جولييت ميتشل أستاذة التحليل النفسي ودراسات الجندر في جامعة كامبريدج، نقلت في مقالٍ لها بعنوان: (النساء: أطول ثورة)، والذي نشر في ديسمبر 1966، عن بيبل تلميذ إنجلز، قوله: (المرأة أول كائن بشري ذاق طعم العبودية، كانت المرأة عبدة قبل أن يوجد العبيد).

وفي ثقافتنا العربية فإن أغلبية الخطاب المعترض على المرأة هو الخطاب الديني، الذي سعى إلى إظهار الفروقات الطبيعية بين الذكر والأنثى لصالح الذكر على طول الخط، ذلك الخطاب الذي تعامل مع الفروق المتوهمة غالبًا باعتبارها مسلّمات وليست فرضيات تَصْدُقُ وتَكْذِبُ.

ولا يوجد نص ديني قطعي، يعترض على المرأة كفاعل إنساني ومجتمعي، غير أنَّ المعترضين على المرأة من ذكور الفقهاء خلقوا فتاوى تعاير فعلها وفقًا لنظم قديمة بالية لا وجود لها اليوم، بل وأكثروا من تطبيق مبدأ القوامة وسحبوها على كل مجال رغم أنه مبدأ أسري يُطبق في حالة الإنفاق فحسب، كما أنهم ناضلوا في إثبات أن عمل المرأة يُفضي إلى الاختلاط الذي يفضي إلى الخلوة والتي تفضي بدورها إلى الزنا، وسدًا للذريعة منعت المرأة من العمل في غالب الأحوال.

والمفارقة أن القرآن الكريم يؤكد بسلبية ذكورية المجتمع العربي، كما قال الله تعالى: (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون)، وهي آيات تحكي أن الذكورية حقيقة اجتماعية قائمة في المجتمع العربي زمن نزول الوحي، وكان من المتوقع أن يعكس الخطاب الديني هذا المعنى بإيجابية، لا أن يرسخه أكثر، ثم يقوم بشرعنته.

وفي عالمنا العربي الذكوري وبمساندة من الخطاب الديني، يرون أن الشرف مختص بالمرأة فقط، وهذا الشرف مختزل في غشاء البكارة فهي القيمة الأهمّ في كينونة المرأة، فتكبر وهي تحيط هذا الغشاء بهالة من القداسة لا تنتهي إلا ليلة الزواج الأولى ببضع قطرات من الدم، ومن هذا المنطلق يختزل الوعي الجمعي المرأة في أنها كائن تتلخص مهمته في الجنس وإشباع رغبات الذكر وفي التناسل وحفظ استمرار المجتمع، ومن هنا أضحى المجتمع الذكوري العربي مهووسًا بتأثيم الاختلاط والخلوة والمصافحة بين الجنسين، إضافة إلى ترسيخ الاختلاف الجنسي، تكريسًا لهيمنة جنسٍ على آخر.

والعقلية الذكورية تلك، هي التي سمحت لشاعر كنزار قباني بتوظيف أعضاء المرأة في قصائده، وتصفه جرَّاء ذلك بالشاعر الفلتة، وتنظر في نفس الوقت بازدراءٍ واحتقارٍ كبيرين للأديبة التي توظف أعضاء الذكر في رواياتها، وتصفها بالفاجرة، لأنها تناقض الصورة النمطية للأنثى التي فرضتها العقلية الذكورية، ثم تبنتها النساء رغمًا عنهن.

وهنا أعرض سؤالًا معضلًا ومشكلًا، وأطرحه على سدنة الخطاب الديني: الإسلام دين عالمي، صالح لكل زمان ومكان، فكيف يمكن لنا أن نسقط مفهوم الشرف على شعوب الهند وشرق آسيا، أو الشعوب الأوربية مثلًا؟! في الوقت الذي لا وجود لهذا المفهوم في فكرهم، وبيئتهم وإن وجد فمدلولاته تنصرف إلى قيم أخلاقية عُليا كالصدق والأمانة.

يجب أن نعي أن المجتمعات البشرية تضع قوانين لا تستطيع التقيد بها، ومع ذلك تستمر في وضعها والتشدق بها ظاهرًا، ثم كسرها في الخفاء وهذا قمة في النفاق، والتشدد والتزمت، والتناقض، ويجب علينا أن نأخذ زمام المبادرة بتدمير هذا التزمت بأقصى قدرة ممكنة، ويجب ألا ندع فرصة لكارهي ذواتهم وكارهي الآخرين أن يدمرونا، أو أن نكون ساحة لتنفيس كراهيتهم للحياة، وفيمن يحبون الحياة.

أخيرًا، تنقل جولييت ميتشل في المقال عن ماركس قوله: (علاقة الرجل بالمرأة هي العلاقة الأكثر طبيعية بين إنسان وإنسان. ولذلك فهي تشير إلى أي مدى أصبح سلوك الرجل الطبيعي إنسانيًا، وإلى أي مدى أصبح جوهره الإنساني جوهرًا طبيعيًا له، وإلى أي مدى أصبحت طبيعته الإنسانية طبيعة له)، ومن عبارات سيمون دوبوفوار في كتابها (الجنس الآخر)، وفيها كل المغزى حول قضية المرأة: «لا تولد المرأة امرأة، ولكنها تصبح كذلك».