كنت قرأت أن أحد العوام العقلاء دخل السوق يومًا ولم يكن معه من النفقة ما يكفي، فاكتفى بشراء الضروري جدًا، وترك بعض الضروريات التي يمكن تأجيلها، فضلا عن الحاجيات، فضلًا عن الكماليات، فلاحظ التاجر ذلك، وقال له: خذ كل ما تحتاجه.

فقال: ليس معي دراهم.

فقال التاجر: لا بأس خذ دينًا، وأصبر عليك.

فقال: بل أنا أصبر.

تذكرت هذه القصة، وأنا أستقبل كغيري من مفوضي الإفتاء بالمملكة أسئلة كثيرة، تتعلق بشراء بعض الناس، من بعض البنوك شيئًا لا يريدونه، وإنما يريدون قيمته، ولهذا يسجله البنك عليهم أقساطًا بمبالغ كبيرة، ويبيعه لهم نقدًا بمبلغٍ أقل.

وبهذا يتحملون ديونًا باهظة، تجعل كثيرًا منهم مدينًا طوال حياته، أو أغلبها، وربما تعرضه للهم والغم والفقر.

ثم إذا سألت أحدهم: ما موجب هذه الديون؟ فإنك تعرف من إجابته بأنها لأشياء ليست من الحاجيات فضلًا عن الضروريات، وإنما هي كماليات.

فهو يريد سيارة فخمة فارهة، ومعلوم أن هذه ليست ضرورة بل ولا حاجة، وإنما هي كماليات وشكليات ومظاهر، وكان يغني عنها سيارة عادية تنقله حيث يريد، ولا تحوجه للديون، نعم لو كان غنيًا، لا يحتاج إلى دين، فله ذلك.

وبعضهم يريد منزلًا فخمًا يكلف مليون ريال أو يزيد، وليس له دخل إلا راتب قليل، فيتحمل الديون، ويُضيِّق على أسرته، وكان بإمكانه أن يكتفي بسكن يتناسب مع دخله، ولا يحوجه للديون، حتى يجمع مالًا، يغنيه عن الدين.

بل إن بعضهم يريد أن يسافر للسياحة فيأخذ مبالغ نقدًا عن طريق (بيع التورق) وربما عن طريق محرم كـ( بيع العينة)، ويسددها مؤجلًا عن طريق أقساط مضاعفة لما أخذه، فيا سبحان الله، أين العقول؟

لو كان عاقلًا لألغى السفر، لأنه ليس ضرورة، وهو لا يستطيع، وإذا كانت الواجبات الشرعية تسقط مع عدم القدرة، فعلى سبيل المثال من لم يستطع أن يصلي قائمًا، فإنه يصلي قاعدًا، ومن لم يستطع أن يصلي قاعدًا، فليصل على جنب، لأن القيام مع القدرة، والله تعالى يقول (فاتقوا الله ما استطعتم).

وهكذا الحج فمع أنه فريضة كما هو معلوم، وركن من أركان الإسلام، فإن من لا يستطيع إليه سبيلا، لعدم وجود النفقة ونحوها من الأعذار، فإنه لا يجب عليه الحج، وإنما يجب على من استطاع إليه سبيلا لقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).

فإذا كان هذا في الحج وهو فريضة، فما بالك بالسفر للسياحة؟

لقد آلمني حال كثير من الشباب الذي ما إن يتوظف، ولو براتب يسير، إلا وقد كبّل نفسه بديون لا قبل له بها، فهو يفرح بها في البداية، ثم تكون عاقبتها في الغالب الحسرة والندامة، وهي أيضًا ليست مجرد دين مساو لما أخذه، بل هي أقساط مضاعفة لما أخذه، وكثير من البنوك لا ترقب في الشباب رفقًا ولا رحمة، بل تغريهم بالأقساط، وتستردها أضعافًا.

فيا ليت من تساهل بالديون: تعلم من ذلك العامي العاقل الذي قال له التاجر: خذ دينا ونصبر عليك، فقال: بل أنا أصبر ولا آخذ دينا.

فيا ليتهم صبروا، وتركوا البنوك وأقساطها، حتى يغنيهم الله من فضله.

وأذكر قديمًا أن شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: قال في أحد دروسه: هل تصدقون أن بعض الناس يأخذ دينًا، ليفرش الدرج، ثم قال هذا سفه، الدين شأنه عظيم، وفرش الدرج ليس ضروريًا.

ولما شرح الحديث الذي في الصحيح وفيه أن أحد الصحابة رضي الله عنهم يرغب الزواج من امرأة، ولكنه لا يملك مالا، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: ليس عندي شيء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم ( إذهب فقد مَلَّكْتُكَهَا بما معكَ مِنَ القُرْآن).

قال شيخنا في شرحه للحديث ( لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: ليس عندي شيء إلى أن يستدين مع أن الصحابة -رضي الله عنهم- أحرص الناس على الخير، لو طلب من أي واحد منهم وكان غنيًّا أن يقرضه لأقرضه؛ لكن لم يرشده إلى ذلك؛ لأن الدين مما يكرهه الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولا يحبذه كما عرفتم).