التفّ الشعراءُ- أو الفلاسفة لا فرق-حولَ محمود درويش وهو يحتضر؛ ليكتب لهم وصيةَ الشعرِ الأخيرة، إلا أنَّ شريانه الأبهر لم يُسعفه بالنُطق، فأشار بيده أنْ تحدثوا بكلِ ما في جُعبتكم من الألفاظ، وحين تَرِدُ لفظةً أُريدها، أُحرّك رأسي إلى الأسفل، حتى تَتَكَوّن جملةً، ومن ثم نصًا. تحوّلت الغرفة إلى فضاءٍ لفظي بلا معنى يُقبض عليه كسردية مباشرة، فكلما قال أحدهم لفظةً، أومأ درويشُ برأسه إلى الأعلى، في إشارة إلى أنَّ المرادَ أبعد.

هذه الحكاية هي معادل موضوعي؛ لتحولات النصِ الشعري، وأركز هنا على ديوانٍ نثري لدرويش عنوانه (حيرة العائد)، لا لكونه نَصًّا درويشيًّا، بل بصفته عَودة، وحيرة في الآنِ نفسه؛ قَسَّم الأجيالَ الشعرية إلى ما يشبه (فوضى القيامة) انكسر المكانُ بهم، وتشظَّت سيرُهم الذاتية، وكينونتهم، وقُطِعَت الصلةُ بين الذات وأبعادها؛ سَمَّاها درويشُ «مطر السيَّاب»، والمطر -هنا- هو البكاء الذي عالجه الشعرُ بالغناء الباكي، والغناء الباكي مارسه بدر شاكر السيَّاب، بكسرِ جدلِ العلاقة بين النص والواقع؛ ومن ثمَّ فإننا أمام قطيعة بين لغة الماضي، وفي الوقتِ نفسه رغبة في امتلاك أرض الماضي باللغة، فتشكّل سؤال مُركّب: كيف يمتلك الشعرُ وجودَه التاريخي من جهتين؛ الأولى: التعبير عن اللحظةِ الآنيّة للتاريخ، الثانية: امتلاك ما يتيح له الإفلات من ضغط اللحظة الآنية، ليعيش في لحظة تاريخية أخرى؟

فبين هذا النص «حيرة العائد» (الصادر عام 2007) نصان، يُلحّان-بشكل يختبئ في زوايا السطور-على لفظة (أبعد)؛ الأول بافتراض أنه شعر: «كزهر اللوز أو أبعد» (الصادر عام 2005)، والثاني بافتراض أنه نثر: «أثر الفراشة» (الصادر عام 2008) وقد جاء فيه نص (أبعد من التماهي). فنص (حيرة العائد) جمع نُصوصًا متباعدة زمنيًا، يجمعها فضاءُ سؤالِ الشعر الحائر بــــ (البحث عن الطبيعي في اللاطبيعي)، وذلك حين عادَ إلى سؤال: ما معنى أن نقترب من الأسماء (الشعر/النثر/...إلخ)؛ طالما أنَّ الحدودَ الفاصلةَ بين الثنائياتِ (كالشعر/والنثر مثلًا) من أشدِّ أنواعِ الغموض؟

ربما أنَّ ما يجري من قَلقِ الشعر وسؤالاته الدائمة عن هويته، هو غَضَبٌ قديم-يتجدد-على ما فعله الفلاسفة بالشعر حين وصلُوه بالبناءِ الفلسفي، فجعلوه قولًا مُخَيِّلًا بالدرجة الأولى، ثم موزونًا ثانيًا. فوضعوا للشعرِ أداة معرفية؛ ومنهجًا وظيفيًا يُحقق القياس الشعري. وما فرقه عن القياس المنطقي إلا بكونه لا يُلتفت فيه إلى كذبِ القول، أو صدقه، وأنَّ ما يفرقه عن النثر هو المحاكاة، وهي -هنا- التصوير وكل ما هو جماليّ مؤثر.

لما كُرِّمَ درويشُ في تونس عام 1995، سأل الحاضرين: «هل مازال الشعر ضروريا؟». الحاضرون هم صورة لتلك الحادثة المتخيلة المذكورة في أول المقالة؛ لهذا فإنَّ سؤالَ (الضرورة) يُحيل على منطق ترابط الكلمات والأشياء، ذلك الذي طوق الفلاسفةُ الشعرَ به. لكنَّ السؤالَ لم يكن إلا كسرا للمنطق، أي أننا إذا ولدنا في مكانٍ جغرافي، وزمان، فإننا ننقضه بالحرية الشعرية؛ تلك التي نصنع فيها ولادةً وموتًا في أماكن مختلفة وأزمنة، بحسب حريتنا، ومن ثمَّ فإنَّ ضرورةَ الشعر ملازمة لحريةٍ مختلفة، لكن طبيعتها مُتصلة بأمكنةِ الشاعر وأزمنتها بالشكل الذي يُعيد تأثيثها من واقع الشعرية!! فما الشعرية؟ هل هي اللحظة التي قَتَلتْ فيها الجماليّةُ الضميرَ؟ فإن كان فيأتي سؤال: ما طبيعة هذه اللحظة؟ -ثم تتسلسل الأسئلة من إشكالية معنى الطبيعة-، أم هي اللحظة التي خانَ فيها الإنسانُ حواسَّه؟ وحين تُخان الحواسُّ-التي نعرفها-فهل يمكن بناءُ حواسِّ منزوعة من معنى: الولادة والموت في سياق القصيدة؟ لكنَّ البَنّاءَ-حينها-سيعودُ حائرًا بذلك الالتصاق التاريخي لذاكرة المكان والزمان. فتكون الذاكرة هي مصدر الاندماج بالتاريخية والاغتراب عنها، وهي مصدر التحرر-إذن-من قلق الوفاء والخيانة لواقع الأرض، أو آلام الضمير، ومن ثمَّ فإنَّ ثمةَ ذاكرة للأدب، تُقلِقُ التاريخية نفسها، بمعنى أنها تَكسِر توقعَ الحتمية، وبقاءَ الجسد في جدلٍ مخلوعٍ عن دوافعه الذاتية، فتكون الشعرية هي معنى مفصول عن الشعر-بصفتِه مَنْطِقًا تؤسِسُه المُخيِّلة، بوظيفة حياتية لها مراميها المقيدة-ومتصلة معه بصفته ذاكرة للأدب، التي تفتقر فيها الذاتُ إلى آخريتها الممتدة في إدراكِ الواقع المترامي في أطراف الوعي. وحين أقولُ إنَّ الشعريةَ معنى؛ فإني أُوصِلُها بالمعنى المؤجل، ذلك الذي يحسُّ فيه الإنسان أنه قبض عليه، لكنَّه أشبه بالماء بين الأصابع.

فيكون السؤال-المعقود بضرورة الشعر-: هل للشعر آخر؟ وآخر -هنا- تأخذ معنيين، الأول: -بكسر السين- النهاية، والثاني: -بفتح السين- المقابل للذات.

فأما النهاية فتُعرف من ماهيّة البداية، وبما أنَّ ماهيّةَ بداية الشعر مأزقٌ، فإنَّ المعنَيَين هنا-آخِر/آخَر-يندمجان في معنى الآخر المقابل للذات، وهي المعبرة عن ذاكرة الأدب التي سأخصص لها مقالًا آخر.

وعودًا على بدء، فإنَّ المشهد الذي تجمَّع الشعراءُ/الفلاسفة فيه حولَ درويش، خرجوا منه بمحاولة أبي حيان التوحيدي، اليتيمة المبتورة، بوضع سُطور على الغلاف الداخلي لديوان (كزهر اللوز أو أبعد) بعد أن محّصها درويشُ بإيماءاته للأعلى والأسفل. تقول السطور: «أحسنُ الكلام ما... قامت صورتُه بين نظمٍ كأنَّه نثر، ونثر كأنَّه نظم». وقد وضع درويشُ ثلاثَ نقطٍ بين (ما، وقامت)؛ لأنَّ بينها كلامًا محذوفًا، أي أنَّ درويش جَعلَ مما اختاره من قولِ التوحيدي مجرد متنٍ، يقطعُ الصلةَ مع ذلك التمييز الفلسفي، وتظل هوامشَه تبتكر وتبدع في تحولات المعنى الشعري؛ فقد قال درويش في حفل توقيع ديوان (كزهر اللوز أو أبعد): «وأنا هنا لا أدافع عن كتابي الجديد، الذي لم يعد لي. ولم أعد أتذكر شيئا منه، منذ خرج مني وأدخلني في مأزق السؤال الفادح: ماذا بعد؟». لهذا نلحظ أنّ كل تجربة درويشية تأتي بانعطافةٍ تحرف المسار عن التجربة السابقة، وماتَ وفي نفسه شيء من الشعر: «وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي/لكنَّ أمرًا مّا إلهيًا يؤجلها/لأسبابٍ عديدة/من بينها خطأ كبير في القصيدة».