قبل ما يقرب من أسبوع أعلنت وزارة الصناعة عن طرح عدد من الفرص الاستثمارية في صناعة اللقاحات والأدوية الحيوية بقيمة 3.4 مليارات دولار، إلى الآن الخبر جميل بل أكثر من رائع لكن الواقع والأمور لا تحقق بالأماني فقط!

صناعة الدواء عالم بحد ذاته بينما صناعة الأدوية الحيوية واللقاحات عالم آخر مختلف كليا بحد ذاته، وإلا لو كان الموضوع سهلا كان كل من أراد سيفعله، لكن واقعيا لم يستطع الكثيرون حول العالم سبر أغواره وتفاصيله!

أقولها وبصراحة شخصيا لا أعلم أحدا في المنطقة متمكنا من هذا العلم (طبعا لست أعرف كل أحد)، لكن لو وجد على الأقل لسمعنا به أو شاهدناه، الموضوع ليس صناعة حبوب صداع مثل البندول أو صناعة (أدوية جينيريك) أو نسخ ولزق، أو برنتيشنات من شركات الاستشارات، الموضوع دقيق ومتداخل وفي نفس الوقت يحتاج تحديثا دوريا ويحتاج خبرات وضبطا جودة، والعديد من التفاصيل الدقيقة.

نفس مكان التصنيع يجب أن يحتوي على مواصفات دقيقة معينة ومصممة بمعايير خاصة (GMP)، وأيضا حتى المدخلات والمخرجات تحتاج ذلك وما أدراك ما GMP، كل تفصيل دقيق في العملية يحتاج عدة شهادات، لو مسمار بسيط صغير في طاولة بعيدة من الألمنيوم في منشأة تصنيع العلاجات الحيوية وضع بدله أيضا مسمار ألمنيوم آخر نفس الشكل والمواصفات لكن من نوعية ألمنيوم آخر ( 304 أو هل هو 316) مختلفة لخرب المواصفات، عملية تصنيع أصغر علاج حيوي ستستغرق 14 مرحلة تقريبا، وكل مرحلة منها تحتوي على عدة مراحل أصغر منها أخرى، كل مادة تدخل في التصنيع تحتاج عدة شهادات تصنيعية وشهادات من كل الموردين حتى قطعة –قطعة، من المعدات إلى حتى أدوات التنظيف تحتاج شهادات جودة من الموردين حسب مواصفات معينة، أي خلل بسيط يقضي على العملية كليا، فقط عمليات التعقيم والتأكد أكثر من 9 تسعة أنواع، إن تعقيم ونظافة منشآت التصنيع يجب أن تكون أكثر بعشرات آلاف المرات حتى من المستشفيات، وهذا فقط علشان تقول (تونا نبدا)، ويحتاج كل هذا إلى متابعة وتدقيق و أبحاث وتطوير وجودة.

رأينا خلال عملنا لسنوات في هذا المجال ثلاثة أنواع من الناس، فرأينا الاستشاريين من الشركات الاستشارية الكبرى يأتي ببدلة أنيقة ويكون البرزنتيشن عنده (مزبرق)، يشع من حلاوة الأرقام، لكن لما ندخلهم بالتفاصيل والواقعية يضيعون، وكثير منهم ما شاف على الطبيعة أصلا مصنع أو منشاة تصنيع علاجات حيوية حياته، في بعض الأحيان الواحد يشفق عليهم عندما يبدأ يخور ويتخبط عندما نتعمق بالتفاصيل، بس أهم شيء البدلة والبرزنتيشن.

النوع الثاني وهو الأطباء، وهؤلاء غالبا ممارسون وفي عياداتهم، ويأتي المنتج النهائي جاهزا لإعطائه للمريض ولا يكون في حلقة أو معمعة التصنيع والإنتاج، ولا يدرك دهاليزها ومتطلباتها، ولست ألومهم فأنا قبل كل شيء طبيب، و واجب الطبيب أن يعرف المرض والمريض ويشخصه ويعطيه العلاج الناجع، وليس تركيزه منصبا كليا على الإنتاج، قبل فترة طلب منا أحد الزملاء الأطباء حضور اجتماع عن مناقشة أحد الأدوية الحيوية وإنتاجها، وهذا حرص منه، و أراد معرفة حلقات تصنيع العلاجات الحيوية، بعد الاجتماع قال لنا (حسيت في الاجتماع أنكم تتكلمون لغة أخرى غريبة عني) . النوع الثالث هو الصيدلاني، وهو تركيزه على أمور تقنية شبه ثابتة معينة لكن موضوع العلاجات الحيوية موضوع مختلف عن عملية تصنيع الأدوية التي معروف معادلات تركيبها مثل الأسبرين، منذ عقود طويلة والتصنيع (نسخ ولزق)، موضوع العلاجات متغير بشكل مستمر، قبل أسابيع كنا في نقاش مطول وحار بخصوص الجيل الخامس من العلاجات الحيوية، وفقط قبل مدة قصيرة بدأت تدخل الأسواق علاجات الجيل الثالث، أي أن النقاش حاليا عن جيلين بعد العلاجات الجديدة التي مجرد دخلت الأسواق هناك تطور متسارع، ومن لا يتأقلم مع هذه المتسارعات فإنه لن يستطيع المنافسة أو حتى المواكبة، تحتاج قسم بحث وتطوير فريد حتى تتكيف.

تحتاج فريقا متكاملا يتكلم اللغة الجديدة والجيل الجديد من العلاجات، وليس تجميع أشخاص ومعدات بدون إستراتيجية أو فكر وإدارة.

إذا نتكلم عن المنطقة لدينا فللأسف اتجاه المعرفة كان يشوبه نوع من الغرابة والنقص، كمثال كيف سنتكلم عن تصنيع الجيل الجديد من اللقاحات في المنطقة ونحن قبل أزمة (كرونا) كوفيد الذين يعرفون mRNA واستخداماته المتعددة لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، الحمد لله أزمة كرونا وعت وعرّفت الناس وحتى المختصين في المجال الطبي بماهيته واستخداماته، وعموما ما يعرفونه ما زال فقط قمة صغيرة في جبل الجليد من علوم واستخدامات الجيل الجديد من اللقاحات.

أما العنصر الرابع في المعادلة فهو التاجر أو المستثمر أو صاحب شركات الأدوية، العديد من تجارنا تاجر تراب أو عقار سمها ما شئت، لا يستوعب هذه التطورات، هو متعود يمسك أرض ويكنزها ويبيعها بعد فترة (وش جابه وجاب صناعة علاجات حيوية!)، حد تفكيره يبني مول، ما له شبيه إلا شريطي الحراج، ربما الفرق هذا لابس بشت بينما الشريطي ماسك سبحة.

يا جماعة الخير خلونا واقعيين لو كان الموضوع بهذه البساطة كان كل العالم أنشأ مصانع أدوية حيوية، بينما نحن بعض العلاجات التجارية العادية لحد الآن ما غطينا تصنيعها، الفلوس ما هي أكبر العوائق كيف ستسلم شركة أو مصنع أدوية حيوية لشريطي عقار، وده يترقى ويصير صناعي أو صاحب مصنع، وتقنعه بأنه لو حصلت قطرة ماء واحدة لازم إغلاق المنشأة كليا، والتخلص من كل المنتج وفحص كل شيء (وهذه ليست مبالغة)، ما جرب التفكير بأنصاف الليالي يخاف قطرة ماء تسقط أو فيروس يحصل فيه خطأ في التصنيع.

الحماس والتفاؤل والمواكبة شيء طيب لكن الواقعية مطلوبة والأهم (أرني كيف ستفعلها).