لا أدري حقيقة هل ثمة كلام ثمين يمكن أن نتحدث فيه عن أحد عظماء التاريخ الحديث، نيلسون مانديلا، أو «ماديبا» كما يطلق عليه مواطنوه. أكاد أجزم بأن كل ما قيل وكل ما سيقال لا يمكن أن يفي حق هذا الرجل الذي استطاع أن يحقق التغيير ليس في محيطه الجغرافي بل في محيط البشرية، ولعل إنسانيته كانت هي كلمة السر في هذه الشخصية النادرة، فهو لا يوصف أنه رئيس سابق لجنوب إفريقيا فحسب، أو أنه كان رئيساً لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي. هو أكبر من هذا وذاك، هو أيقونة فريدة، صانعة لفن التسامح. السياسي الذي استطاع أن يحول السياسة لمشروع إنساني يتصدى للعنصرية ويروج فيها لثقافة السلام في أرجاء العالم.

أمس احتفل العالم باليوم الدولي لــ«نيلسون مانديلا» الذي يوافق ميلاده المئة وأربعة أعوام. تقول الأمم المتحدة في موقعها الرسمي:

«اليوم الذي ولد فيه نيلسون مانديلا — تطلب الأمم المتحدة من كل الأفراد حول العالم الاحتفال باليوم العالمي لنيلسون مانديلا بإحداث تغيير في مجتمعاتهم. فكل فرد لديه القدرة وعليه المسؤولية لتغيير العالم نحو الأفضل، ويعد يوم مانديلا مناسبة للجميع للعمل وإلهام التغيير».

ولعل قصة سجن «روبين آيلاند» في جنوب إفريقيا هي من القصص الأكثر دراما في تاريخ السجون والمعتقلات وبطلها السجين رقم 46664 «نيلسون مانديلا» وكان كل من يشاركه الزنزانة من أصدقائه أصبحوا في ما بعد وزراء ورؤساء ومسؤولين، هؤلاء هم الذين رفعوا اسم جنوب إفريقيا عاليا وخرجوا من المعتقل ليحولوا دولتهم إلى إحدى الدول الكبرى في القارة السمراء.

الزنزانة المظلمة المحاطة بالأسلاك الشائكة والأسوار الكهربائية تحرسها مجموعة من الكلاب المتوحشة من داخل هذه الزنزانة طالب مانديلا ورفاقه السجناء إدارة السجن بإقامة دوري خاص بهم، وبالفعل حصل السجناء على موافقة الإدارة، بدأت المباريات بين السجناء، لعب «مانديلا» كرة القدم داخل هذا المعتقل الحديدي، كان ينظر للمستديرة الساحرة على أنها أيقونة الحرية، ساعدتهم كرة القدم على شحن روحهم المعنوية، وزيادة قدراتهم العقلية. اليوم تحول هذا السجن إلى متحف يتوافد عليه الآلاف لزيارة جزيرة «روبين» وليس فيها ما يغري بالزيارة، هذا الكم الهائل من البشر كان يأتي بسبب سجن مانديلا فقط الذي قضى فيه أكثر من ربع قرن

. لطالما كان مانديلا رافضا لتسلم شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة هارفارد الأمريكية لأنها كانت تستثمر الملايين في نظام الفصل العنصري، حتى وافق أخيرا لحضور التكريم حتى إن أحدهم قال: الحقيقة أن مانديلا هو الذي يكرم الجامعة وليس العكس.

في 5 ديسمبر 2013 رحل مانديلا عن الحياة وتزامن تشييع جنازته مع العاشر من ديسمبر وهو اليوم العالمي لحقوق الإنسان.

أخيرا أقول: كلنا سنفارق هذه الحياة يوما، لكن لن يصنع فرقا في هذا الكون سوى تلك النفوس والأرواح النورانية القادرة على التسامح.