كعادتها دوما، نجحت المملكة العربية السعودية في الحصول على التأكيد على التزامها بنهجها وثوابت مجتمعها، ونالت في ذات الوقت أكبر المكاسب من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة للرياض، وحققت كافة الأهداف المرصودة من تلك الزيارة المفصلية التي أتت في توقيت دقيق يمر به العالم أجمع ومنطقة الخليج العربي على وجه الخصوص، بسبب ما يشهده الملف النووي الإيراني وما يصاحب ذلك من تدخلات إيرانية في شؤون دول المنطقة، وحالة عدم الاستقرار في الأسواق العالمية نتيجة للأزمة الأوكرانية.

ويعود الفضل بصورة أساسية – بعد الله سبحانه وتعالى – في ذلك النجاح إلى التحضير الجيد الذي استبق الزيارة، فالدول الخليجية اعتادت على اتخاذ مواقف متشابهة، وتجمعها رؤى مشتركة لقضايا المنطقة والعالم، إضافة إلى زيارة سمو ولي العهد الأخيرة إلى مصر والأردن وتركيا. لذلك لم يكن غريبا أن يكون الصوت العربي والإسلامي موحدا تجاه القضايا الرئيسية التي تجمع الأمتين العربية والإسلامية.

بدءا ينبغي الإشارة إلى أن العلاقات السعودية الأمريكية التي تأسست قبل ثمانية قرون هي علاقات إستراتيجية مبنية على أسس متينة ومصالح متبادلة وتجمع الدولتين قواسم مشتركة، فإذا كانت الولايات المتحدة هي الدولة الرائدة في العالم من واقع مكانتها كدولة عظمى، فإن المملكة تتمتع بمكانة فريدة، عطفا على ما تمتاز به من مزايا وإمكانات.

فهي بيت العرب وكبيرة دولهم، وقائدة الدول الإسلامية التي اختصها الله بعمارة بيته الحرام، وانطلقت منها رسالة الإسلام حاملة مشعل الهداية للبشرية، لذلك فهي مهوى أفئدة مليار ونصف المليار مسلم في كافة قارات العالم، كما أنها الدولة المحورية ذات التأثير الواضح في مفاصل الاقتصاد العالمي كونها أكبر منتج للنفط، وهي في ذات الوقت صاحبة الاقتصاد الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وتشهد نهضة اقتصادية هائلة تجعل كبريات الشركات العالمية تتسابق للعمل فيها.

لذلك فإن الأصوات المشروخة التي تحدثت خلال الفترة الماضية عن تصدع في تلك العلاقات، وأن الرياض لم تعد الشريك الإستراتجي لواشنطن كانت تهرف بما يتعارض مع أبسط أبجديات السياسة الدولية، وتعبر عن حالة فراغ معرفي كبير وهو ما أوضحته الزيارة الأولى للرئيس الأمريكي إلى المنطقة.

هؤلاء تجاهلوا أن العلاقات بين الدول تقوم أساسا على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وإذا حدث تباين في وجهات النظر أو اختلاف في التعاطي مع قضايا بعينها فهذا أمر طبيعي في عالم السياسة لأن المصالح تتقاطع في بعض الأحيان. كما أن ذلك يعتبر تأكيدا جديدا يثبت أن المملكة لا تنقاد وراء الآخرين، ولا تسير في ركابهم بدون بصيرة، ولا يمكن أن تتخلى عن سيادتها أو تبيع مواقفها مهما كانت المكاسب ومهما كان حجم الطرف الآخر.

تفاصيل الزيارة كانت أكبر من أن تتم الإحاطة بها في هذه المساحة، لكن من أكبر ما جذب أنظار المتابعين هو التصريح اللافت لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله - الذي أشار فيه إلى أننا نحتفظ بقيمنا الخاصة التي نفتخر بها ولن نتخلى عنها، وأن على العالم احترامها كما نحترم نحن قناعاته وقيمه، وأن ذلك هو السبيل الوحيد لتعزيز الشراكات وتعزيز المصالح البينية.

هذه الرؤية التي تنطلق من اعتزاز كبير بالهوية والقيم والتقاليد تؤكد ما سبق أن ذكرته مرات عديدة بأن المملكة تثبت مرارا وتكرارا أنها لا تحرص على مجرد مصالحها الاقتصادية والسياسية، بل إنها تكن اهتماما كبيرا وتقديرا عظيما لقيمها وتقاليدها وما عرف به مجتمعها منذ الأزل من صفات كريمة وخصال حميدة، وأن هذا الرأي الصائب يؤكد أننا لن نرهن ثقافتنا وحضارتنا للآخرين، بغض النظر عن الظروف والمسببات.

كذلك فإن تركيز ولي العهد في كلمته وتصريحاته اللاحقة على القضايا الحقوقية وضرورة التقيد بمبادئ حقوق الإنسان تؤكد مرة أخرى أن بلادنا تدرك تماما المسار الذي تسير عليه سياساتها والأهداف التي تمثل الأولوية في سلم اهتماماتها، وأن هذه المبادئ التي يتشدق بها الآخرون هي جزء أصيل من ديننا وثقافتنا وثوابت مجتمعنا.

في ذات الوقت فإن التنوع الكبير في الأجندة التي تم تناولها وبحثها يعيد التأكيد على أن المملكة تحمل على عاتقها مصالح وقضايا كافة شعوب المنطقة، فالهم العربي والإسلامي كان حاضرا بقوة، وتم التطرق لكافة الأزمات التي تعاني منها دول المنطقة، إضافة إلى قضايا التطرف والإرهاب، والحفاظ على البيئة، وتحقيق الأمن الغذائي، وتنسيق الجهود لمواجهة الأوبئة والأمراض، ودعم الدول الأشد احتياجا، وتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة.

ورغم السياسات العدائية التي تنتهجها طهران تجاه كافة دول المنطقة وتدخلاتها التي أشعلت فتيل الأزمات في اليمن وسورية والعراق ولبنان، إلا أن ولي العهد أكد على مساعي الحوار وهو يقدم دعوة صادقة للنظام الإيراني للالتزام بسياسة حسن الجوار، والكف عن تصدير الأزمات للآخرين، والتناغم مع توجهات المجتمع الدولي، والتجاوب مع الوكالة الدولية للطاقة، مشيرا إلى تطلعه لعلاقات طبيعية معها إذا التزمت بتلك السياسات وأوقفت مساعيها الهدامة.

عموما فقد كانت «قمة جدة للأمن والتنمية» فرصة سانحة لإعادة ترتيب أوراق المنطقة بما يؤدي إلى نهضة شعوبها، فالتحديات التي تحدق بالجميع لا يمكن التغلب عليها إلا بتجفيف منابع التوتر وتصفير الأزمات، وهو ما أثبتت المملكة دوما أنه يمثل أول اهتماماتها لأنه المدخل الرئيسي لتحقيق التنمية والازدهار، وهو فن لا يجيده إلا الكبار الذين احترفوا رفاهية شعوبهم وترقية معيشتهم.