لابد من إيضاح السبب في (عدم جدوى بعض النتاج الأدبي)، مع محاولة رسم طريقة تحقق الاستفادة مما تنشره النوادي في انعاش الحركة الأدبية. إذ ما أيسر أن يقال: هذا العمل غير مجد، ولكن ما أصعب تقديم ما هو خير منه!! ويبلغ بي الغرور مبلغه إذا بلغت ثقتي بنفسي هذا الحد، ولكنني بمطالعة كثير من (المنشورات) برزت لـي جـوانـب مـن السـمـات الواضحة، التي من خلالها كونت تلك الانطباعات أقمت عليها القول بضعفها. وأهمها: أن كثيرًا من تلك المؤلفات لا ترتكز على قـواعـد قـويـة من التراث العربي الأصيل، وأعني بها ما له صلة بذلك التراث، ويرجع هذا في رأيي - إلى ما تتصف به النفس من محبة البروز في أي عمل من الأعمال، والناس في هذا سواء، ولكن الشباب من غيرهم في ذلك. وأذكر أنني كنت في أول ممارسـتي الكتابة أمضي الوقت الطويل في تسويد الأوراق بكلام لا طائل تحته، فإذا رضيت نفسي- ومن ذا الذي لا ترضي نفسه عما يفعل - سعيت إلى إحدى صحفنا - وكانت ثلاثًا إذ ذاك – وويل لمن قال لي: إن هذا لا يصل للنشر، وما أشد فرحتي حين أرى اسمى مذيلًا بما كتبت بعد أسبوع أو شهر من تقديمه للصحيفة، وبعد الحاح وكثرة مراجعة لكي ينشر. أما بعد أن أصبحت على جانب من الإدراك والفهم فإنني إذا عرض علي شيء مما نشر لي أكاد أتوارى خجلًا، بل كنت إذا اطلعت عليه منفردًا - عن غير قصد - أحاول أن أخفيه، كمن يحاول ستر سوءته. تتفاوت المدارك والأفـهـام، فهناك الموهوب والذكي وضـدهـمـا، وأي أديب عربي إذا لم تكن لديه ذخيرة جيدة من تراث أمـتـه فـإن إنتاجه يكون ضحلًا، لا أقول عديم الفائدة، بل مبتور الصلة عمـا لأمته من حياة فكرية.

أمران ألمحت إليهما من أسباب ضعف الإنتاج الأدبي: الرغبة في نشر ذلك الإنتاج قبل أوان نضج التفكير، وعدم التمكن من الوسائل التي تحقق لذلك الإنتاج الاسـتـقـامـة والـقـوة بالـتـعـمـق بدراسة التراث العربي، تعمقًا يمكن الكاتب من تقويم أسلوبه وتوسيع مداركه.

ولقد كنت إلى عهد قريب - أنصح كل من استشارني ورغب أن أنصحه بما يقرأ من كتب - أنصحه أن يقرأ كل ما يقع في يده من كتاب أو صحيفة، وكان ذلك قبل أن تطغى موجة النشر في أيامنا.

ولئن أغرت الكتب الحديثة بأساليبها الجذابة التي لا تجهد الفكر إجهادًا يدفع القارئ إلى السأم من المطالعة في الوقت التي اتخذ منها وسيلة للراحة وامتاعًا للنفس بما يثير لها البهجة، فإن في المؤلفات القديمة ما لا يقل أثرًا في هذه الناحية من تلك الكتب، مع امتيازها بإمداد القارئ بما يربي في نفسه ملكة السليم، واستقامة الأسلوب، مـن سـلاسـة وغـوص في أعـمـاق النفس لإثارة عواطفها

وخذ - مثلًا - مؤلفات الجاحظ، فمن ذا الذي يروض نفسه من القراء على التمعن في قراءتها ثم يقبل على مطالعة كتابه «البخلاء» ولا يدرك بعد ذلك ما قيل عن تلك المؤلفات من أنها تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا، وعـنـدمـا أسـند إلـي الـعـمـل لـوضـع منـاهج الدراسـة فـي أول (مـعـهـد) أنشيء فـي مـديـدة الرياض ثم في كلـيـتـي اللـغـة الـعـربـيـة والـعـلـوم الشرعية التابعتين له، كان مما اخترته للمطالعة هذا الكتاب، حتى زار (كلية اللغة العربية) وكنت مديرها الشيخ محمد حامد الفقي فقال للشيخ محمد بن ابراهيم – رحمهما الله -: كيف تدرس كتب الجاحظ (المعتزلي)؟! فاستبدل كتاب «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» بكتاب «البخلاء» في المطالعة،!! وكان الشيخ حامد قد طبع كتاب دروس «الفتح» تلك الأيام.

وفي عشر الستين من هذا القرن كنا أربعة أخـوة – وقد نزيد -: الشيخ مـحـمـد الـحـسـن الضبيب والشيخ عبدالله الخياط والأستاذ أحمد أسدالله، وأنا (رابعهم)!! كنا كثيرًا ما يحلو علي لنا أن نذهب مساء الجمعة إلى قهوة في أعلى مكة تدعى (قهوة عصمان) فنمضي الليلة بمسامرة الأغاني، وقد يتحفنا الأستاذ أحمد على ببعض مضامين الكتب أو الصحف الحديثة ولكننا لا نلبث أن نعود لذلك الكتاب، مندفعين بنهم وشدة رغبة بالاستماع إلى ما يقرأه أحدنا منه ولا أخال أحدًا طالع كتاب «الأغاني» مطالعة تعمق واستفادة، يستغرب ما ذكره أمير البيان الأمير شكيب أرسلان من أنه قرأه نحوًا من أربعين مرة. وفي كتاب «تاريخ الرسل والملوك» لابن جرير الطبري من رائع الأسلوب مـا يـسـتـهـوي القارئ المستفيد، خصوصًا ما يتعلق منه بالدولتين الأموية والعباسية، من قصص وأشعار وأخبار منوعة.

1980*

* باحث وصحافي سعودي«1910 - 2000».