المملكة العربية السعودية بإرثها وعمقها العربي والإسلامي لا يمكن أن تخضع، أو أن ترهن مواقفها لأحد، ولا يمكن أن تقامر على مبادئها وسياستها، مما جعل المحاولات الأمريكية في لي الذراع تخفق، وتتكسر أمام الجدار السعودي الصلب؛ وحينما عادت الإدارة الأمريكية إلى تعقلها، وعادت إلى الإرث العميق في العلاقة بين البلدين، عدنا إلى ذات المستوى من التعاطي والتعاون من أجل المصالح المشتركة، ولكن ما قبل ليس كما بعد، فقصتنا مع أمريكا تبدلت، وشرعنا نحن وهم في نسج خيوط قصة مختلفة، بدأت مع تبلور واكتمال نظرية أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي انطلقت إرهاصاته بعد أحداث 11 سبتمبر، وأُعلن عن نص المشروع في مارس 2004، بعد أن طرحته الإدارة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية الثمانية، والذي يمكن تلخيصه في أنه مشروع يرمي إلى وضع إطار شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حسب رؤية الإدارة الأمريكية وإرادتها، ويكون ذلك على رقعة جغرافية واسعة وممتدة تشمل البلدان العربية إضافة إلى تركيا، وإسرائيل، وإيران، وأفغانستان، وباكستان.

وأساس المشروع قائم على فرضية مؤداها أن كره العالم الإسلامي والعربي لأمريكا والغرب، جاء تبعًا لكره تلك الشعوب لأنظمتها الحاكمة، المدعومة من أمريكا -زعمًا- مما أدى إلى الاضطرابات السياسية والنزاعات العسكرية كمخرجات للحكم في تلك المناطق، الأمر الذي ولَّد عمليات إرهابية نوعية واسعة النطاق.

هذه النظرية تقوم على خلق توازنات بدرجة معينة، حتى لو أدى فرض هذه التوازنات إلى الفوضى والقتل والدمار والتشريد، في البداية، حيث إن هذه الفوضى ستقود في النهاية إلى تعديل مسارات السياسة والاقتصاد والاجتماع في المنطقة، أي أنها ستكون فوضى خلَّاقة.

وفي 16 فبراير 2011، نشرت جريدة نيويورك تايمز تسريبات لجزء من محتوى وثيقة سرية، سميت: بالقرار التنفيذي أو الدراسي السري للرئيس الأمريكي باراك أوباما، المودعة بالرمز:

[Presidential Study Directive 11 (PSD 11)]

والتي أعدتها إدارة الأمن القومي الأمريكي، واعتمدت في تاريخ 12 أغسطس 2010م، وأوصت فيها بالتضحية بعدد من الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط، وإطلاق يد إيران في المنطقة، وبث الفتنة والفرقة عبر نظرية «الفوضى الخلاقة» آنفة الذكر، والتي أكدت المحققة السابقة بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كلير لوبيز، خلال جلسة استماع بالكونجرس؛ بعد عقد من اعتماد الوثيقة، أن الوثيقة دعت إلى استخدام قدرات وإمكانات أمريكا لدعم الإطاحة بحكومات حليفة، وتسليم السلطة لتنظيم الإخوان المسلمين بمصر وشمال إفريقيا تحت إشراف تركي، وتمكين جماعات تحكم تحت الإشراف الإيراني، في العراق وسورية ولبنان واليمن، من أجل خلق توازن سني شيعي في المنطقة.

وانطلقت إدارة أوباما وبعض الدول والجماعات بالتنفيذ، فتم التركيز على شبكات الناشطين والمدونين الذين تم تدريبهم على استخدام وسائل التواصل الحديثة، وطرق التعبئة السياسية للجماهير، وإسقاط النظم، وحشد المظاهرات، هذا العمل التنفيذي المباشر والصلب، كان يقوم نظريًا على مخرجات مجموعة من المؤتمرات، وحلقات النقاش، وورش العمل، والدراسات التي كانت تصدر عن مراكز التفكير والبحوث والدراسات الأمريكية، ومن أهمها دراسة نشرت عام 2007م بعنوان: «بناء شبكات إسلامية معتدلة»، افترضت أن دحر الإرهاب والتطرف في المنطقة بحاجة إلى إسلاميين معتدلين يطبقون الديمقراطية بالمواصفات الغربية، ومن هنا تم الترويج المباشر لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وللصوفية العالمية، كونها تمثل الإسلام الكلاسيكي، إضافة إلى قيام بعض أنظمة المنطقة بالعمل على إنشاء بؤر معارضة للحكومات العربية، بالإضافة إلى دعم خلايا معارضة سابقة، وغير ذلك من الأعمال، التي جذبت الشارع العربي، تمهيدًا لما يعرف بالربيع العربي.

وحينما تم إفشال مشاريع الربيع العربي في الدول المهمة والمحورية، ونجاحه النسبي التخريبي في دول أخرى، لم تنته القصة عند هذا الحد، بل وصلت العلاقات بين السعودية وأمريكا لأدنى درجاتها بعد إبرام الاتفاق النووي الإيراني عام 2015م، والذي شعرت فيه السعودية ودول الخليج بأنها اتفاقية تعمق قوة إيران على حسابها وحساب أمنها واستقرارها، فالاتفاقية لن تحمي المنطقة، وفي الوقت ذاته لن تردع إيران عن تطوير قدراتها النووية العسكرية، وهنا كان لدى السياسي الخليجي قناعة واحدة هي: أن ما يحفظ ويحقق أمن واستقرار المنطقة، لا يتم إلا من خلال إيقاف أنشطة إيران الإرهابية في المنطقة أولًا، ثم إنشاء شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل، بما فيها السلاح النووي لإسرائيل والتي ما زالت ترفض ‏الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي، وترفض إخضاع منشآتها النووية لنظام الوكالة الدولية للطاقة ‏الذرية.

وبالمناسبة، فإني متيقن أن إسرائيل لا تخشى القوة النووية الإيرانية، وحتى تراخي أمريكا في الملف النووي الإيراني، ناجم عن اليقين العميق بعدم مساس أمن إسرائيل من قبل النظام الإيراني، والدليل أن كل الدعاية الإيرانية التي تسرق بها عواطف ومشاعر البسطاء في العالم الإسلامي هي ضد مصالح الخليج وأمنه الإستراتيجي فقط، ولم تشكل خطرًا أو تهديدًا في يوم من الأيام على إسرائيل بأي سبيل، ولو كان الأمر كذلك لتعاملت إسرائيل مبكرًا مع إيران كما تعاملت مع المفاعل النووي العراقي في 1980.

يقول بايدن: «إن الشيء الوحيد الأسوأ من إيران الموجودة الآن هو وجود إيران بأسلحة نووية»، وهذا حق فامتلاك إيران سلاحًا نوويًا هو أمر في غاية السوء، غير أني أعتقد أن الأسوأ من ذلك هو إبرام اتفاق نووي معها، يعطي مجالًا لتدفق المزيد من الأموال في خزينتها؛ لتصبح أكثر قدرة على تمويل الإرهاب ونشره، فخطر إيران يتجسد في إرهابها المنتشر وليس في قنبلتها النووية التي لم تولد بعد.

فهم تلك المرحلة يجعلنا ندرك ما جرى ويجري في المنطقة إلى اليوم، ويجعلنا نفهم الحملات الإعلامية القذرة ضد السعودية، لأن الأمر ببساطة هو أن مهندسي الربيع العربي من إدارة أوباما، جاك سوليفان (مستشار الأمن القومي)، وأنتوني بلينكن (وزير الخارجية)، وأفريل هاينز (مديرة الاستخبارات الوطنية)، ما زالوا يحكمون.

على كلٍ، في عهد الملك سلمان، استقبال جو بايدن في 2022، لا يختلف كثيرًا عن استقبال باراك أوباما عام 2016.