يضع الفيلسوف رورتي للعقل حدودًا؛ وهي الطرق التي فتحها الخيال، فيأتي -لديه- مفهوم الشعر؛ بوصفه بيتًا واسعًا يطابق معنى الخيال الذي تقبض عليه اللغة، فتفتح آفاق الحقيقة، ومن ثم تأتي فتوحات الطريق للناثرين الذين يبتكرون الخطوط التأملية كلعبة رياضية، أو حجة استقرائية، أو سرديات. ومن ثم فإننا أمام الحل الذي ينتج الحقائق، إذ الشعر هو ما يمنحنا لغة ثرية في الوصول إلى الحقيقة، وهنا يستبعد رورتي اللغة المنثورة غير المؤثرة في الوجدان. إلا أنَّ رورتي يُشدد على زمنية ابتكار اللغة؛ إذ يؤكد أنَّ ما تجسَّد في زمن (شيلي) أقدرُ على التعاطي مع الحقيقة من زمن أفلاطون، ومن ثَم تأتي أهمية البراجماتية؛ بصفتها اعترافًا من الإنسان بأنَّ أعظمَ ما يماسّ ذاته هي اللحظة الزمنية التي ينتج فيها اللغة، ولهذا فتوالي القرون ضمان للثراء في تكوين الحقيقة من جهة أنَّ اللغة المستعملة في قادم الزمان لها إمكانات أكثر.

وفي استبعاد اللغة المنثورة غير المؤثرة في الوجدان -باعتبار الوجدان هنا عندي أنه الوجود بصفته نصًا- سأحيلُ إلى نمطين في تفتيقِ الحقيقة، وأعني:

أولا المرحلة التي يمكن لي أن أسميها (السوسيريّة) - نسبة للّساني السويسري فرديناند دي سوسير- وهي المرحلة التي أشار فيها سوسير إلى انشطار العلامة بين دالٍّ ومدلول، مختلفين لكنهما كوجهي الورقة الواحدة، أي أنَّ سوسير أسَّس مستويين، بالتقائهما تكون اللغة والفكر. أي أننا -هنا- أمام نمط يصنع للحقيقة سياقًا خارجيًا، ومن ثم فاللغة بصفتها ملكة لغوية تُشيّد النسق، تسبق وجود الإنسان بصفته كائنًا اجتماعيًا، لكنَّ السَبْق هنا سَبْق بالقوة وليس بالفعل؛ لأنَّ تحقيق الملكة اللغوية يستلزم وجود المجتمع الذي يتعارف ناسُه على مجموعة من القواعد التي تمكنهم من ممارسة هذه الملكة.

وأما المرحلة الثانية فأستوحيها من المرحلة (الدريديّة) -نسبة للناقد الفرنسي جاك دريدا. وصِفَة الناقد هنا بصفتها حلت محل الفيلسوف- فتكونُ حينئذ غربلة للسابق والمسبوق، أي أنَّ مفهوم الاختلاف الذي خصصه سوسير في اللغة بصفتها نظامًا، ينطلق من عِقاله إلى أن يُغلق الإحالة الخارجية بصفتها سَبْقا على الوجود. ومن ثم نحن -هنا- مطوقون بثلاثة أشياء:

1. العقل محكوم بالنص، إذ الوجود نص. 2. أنَّ الذات ليست هوية جوهرية، بل هوية سردية. 3. المفاهيم لا توجد إلا في نسق.

والنسق نسقان، نسق شعري أولي يصنع من الاختلاف إرادة لا واعية للحياة، ونسق غير لغوي، يجعل من الوجود حضورًا، أي تطابقًا دلاليًا وماهويًا، ومن ثم فإنَّ (الصوت) في النسق الثاني أصل والكتابة صورة، أما النسق الأول، فإنَّ (الكتابة) دلالة الاختلاف الأولي؛ لأنها ليست مرتبطة بذات متحدثة تحد مقاصدها ومعانيها؛ يقول أفلاطون ضمن محاورة فيدروس في سياق الحديث عن الكتابة: «ليس لديها آباء كي يحموها، لأنَّ الكتاب لا يستطيع أن يحمي نفسه أو يدافع عنها» ويقول عن الصوت: «أما الكلام الحي، كلمة المعرفة الحية التي تمتلك روحًا، فليست الكلمة المكتوبة سوى صورة لها... فتدافع عن نفسها وتعرف مع من تتكلم ومع من تكون صامتة». ومن ثم فإنَّ الصوتَ الشعري/وصورتها الكتابة؛ لدى النسق الثاني، سيكون مجرد دالٍ للمدلولِ المتعالي؛ لهذا كانَ النسقُ الأول منتصرًا للكتابة التي تجعل من المدلول تائهًا، فيدخل في سياقات متعددة ومتكررة. والتعدد والتكرار ضمن النسق يجعل من الشعرية تبتكر اللغة بصفتها وجودا، ومن ثم فإنَّ اللغةَ تؤسِس الحقيقة بصفتها مفاهيم متخالفة مع غيرها ومع ذاتها، حين يبتكر الشعر لفظا يعطي الشيء ونقيضه، مما يجعل من الاختلاف أوليا.

إذن نحن أمام لغة مؤثرة ولغة غير مؤثرة، لهذا حولتُ لفظةَ (الوجدان) عند رورتي إلى الوجود بصفته نصًا. والمؤثر هو المقصود بالبديل؛ لكن بديل عَمَّاذا؟ ربما هو بديل للوجدان التاريخي، والعقلانية المترهلة. وحين نقول الشعرَ؛ فإننا نخرج أول ما نخرج: شعراء الوجدان التاريخي والعقلانية المترهلة، والمجاز الواعي، ونقذفُ بهم في منطقة اللغة غير المؤثرة في وجدان الوجود بصفته نصا؛ إذ الشعر حين يبتكر اللغة في لحظة اختلاف أولي، فإنَّه يشرح في الآن نفسه إمكانية خلق الوعي من خلال اللغة المتراكمة جيلا بعد جيل.